بما أن "التابوهات" تتكاثر، والخطوط الحمراء تزداد، والقارئ "المجذوب أو المخطوف ذهنيًا ووجدانيًا" لمغناطيس الاستقطاب المجتمعى، قد تقمص دور الرقيب القُح، وعادة الرقيب- أى رقيب- أن ينقب فى المفردات والعبارات، فإذا لم ترق له مفردة، أو ارتاب فيما وراء عبارة، أمعن فى الكاتب تمزيقًا وتقطيعًا وسبابًا وتخوينًا.
وبما أنى على خلاف العادة لا أريد أن أكتب مقالًا، يهدر وقت الرقباء، أو يُتعب قلب الخلفاء، كما يقول شاعرنا أحمد مطر فى قصيدته " شعر الرقباء"، فلا بأس إذن من أن ألوذ بالتاريخ، ففيه متسع للأخذ والرد، ولديه يرتفع سقف الحرية "نسبيًا"، كما أن فى حوادثه عظة وعبرة لقوم يتفكرون.
أما العبرة فأرجئها للختام، وأما الحادثة، فأقتطعها من "عجائب الأمصار فى التراجم والأخبار" للجبرتى، وممن نقلها عنه من المؤرخين مثل: محمد رجب بيومى، فى كتابه "صفحات هادئة من الأدب والتاريخ"، وجمال بدوى فى كتيّبه الشيق "مصر من نافذة التاريخ"، وهى عن صهر محمد على باشا، محمد الدفتردار، الذى كان قبضة غليظة لولى النعم، قبضة عصرت وهصرت وعصفت بأبناء الشعب المسكين المقهور.
كان الدفتردار كما يبين اسمه، يتولى مسؤولية الدفاتر الحكومية، وكان جمع الجباية على رأس مهامه، وكان يتلذذ بالإفراط فى القسوة، يؤدى عمله بقلب صخرى، فلا تأخذه رحمة بمتعثر، أو شفقة بعزيز قوم زلّ، فإما الدفع أو الجلد.
ومما يروى تدليلًا على قسوته أنه كان يتفقد ذات صباح قرية، فإذا فلاح تنضح ملامحه بؤسًا وتفيض قسماته شقاءً، يستوقفه باكيًا شاكيًا من ناظر الأرض، الذى رفض إمهاله وقتًا لسداد ضريبة بلغت ستين قرشًا، فانتزعه بقرته ثم أمر الجزار بذبحها وسلخها وتقطيعها ستين جزءًا، فباع الجزء بقرش لتحصيل الجباية المستحقة، ومنح الجزار الرأس لقاء عمله، ذلك رغم أن البقرة تساوى مائة وعشرين قرشًا.
ومضى الفلاح يقول بصوت متحشرج: كانت البقرة كل ما أملك، وقد حلفت للناظر طلاقًا بالثلاثة، أنى سأسدد الجباية ما أن يجعل لى الله مع العسر يسرًا، لكنه صعّر خده، وبعدما قضى بذبحها حرمنى حتى من الحصول على قطعة لحم منها كى أطعمها عيالى.
ولما انتهى الفلاح من تبيان مظلمته، شرع الدفتردار يبرم شاربه الكث ويفكر، وقد ارتسمت على محياه علامات الغضب، ثم أطرق برهة، وفجأة احمرّت عيناه كأن نارًا بهما اتقدت، فصرخ صرخة مدوية مزلزلة، آمرًا عساكره أن يجلبوا الناظر والجزار من قفاهما إلى جُرن فسيح، ونودى أهل القرية أن تجمعوا لتشهدوا المحاكمة.
كيف طاوعك ضميرك على ذبح بقرة هذا المسكين؟.. استجوب الدفتردار الجزار، فارتعش رعبًا وارتعد جزعًا، لكنه سرعان ما تمالك نفسه: أنا عبد مأمور.. فإذا بالدفتردار يشير إلى الناظر وهو يقول: إذن فإنى آمرك بذبح هذا الوغد.
بهت الجزار وحملّق فى الدفتردار مذهولًا، لا يصدق أذنيه، لكن الأخير صرخ فى وجهه بغضب: لماذا لا تنفذ؟ هل تعصى أوامرنا "ولد خرسيس"؟.. فانتفض الجزار فاستل سكاكينه وسواطيره، فأمسك بالناظر فتلّه للجبين، فحزّ رأسه عن جسده، ثم أمر الدفتردار بتقطيع الجثمان ستين إربًا، وبيع الجزء بقرشين، ثم أعطاه رأس الناظر لقاء عمله.
بعدئذٍ وهب الدفتردار حصيلة البيع للفلاح ليشترى بقرة أخرى، وهو يربت على كتفيه بعطف ظاهر وحنان بالغ، ثم أخذ يقهقه قهقهات مرعبة كأنها صرخات شياطين تخرج من كهف مظلم، والناس من حوله كأن على رءوسهم الطير.
وهكذا انتهت المحاكمة، فانصرف الدفتردار إلى حيث يحكم ويقضى فى أمر آخر، منتشيًا بأنه أقام عدلًا ومحا ظلمًا، وانحاز للفلاح المسكين!
تلك كانت الحادثة.. أما العبرة فلست أحسب أن تحتاج شرحًا أو تتطلب تأويلًا، لكن لا بأس من تكرارها، عسى أن تهدى عقولا أو تشرح صدورًا.. يرد فى الأثر عن ابن القيم مقولته: "دولة الظلم ساعة، ودولة الحق حتى قيام الساعة"، ويقول ابن خلدون فى تفسير سر ازدهار مجتمعات ليست مؤمنة: العدل أساس الملك، فيما يقول عز وجل فى محكم التنزيل: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل".
"العدل ليس مفردة حالمة ينادى بها رومانسيون، وليست كلمة جوفاء يتفيهق بها ثوار كلاسيكيون.. العدل هو الحل".
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة