عطر الأحباب.. ماركيز هدية السماء ونعمة الأرض وسيد الخيال!.. كيف استقبل نجوم رواياته خبر موته وماذا قال الجنرال والبطريرك والدكتور والعاشق المحروم

الجمعة، 25 أبريل 2014 10:55 ص
عطر الأحباب.. ماركيز هدية السماء ونعمة الأرض وسيد الخيال!.. كيف استقبل نجوم رواياته خبر موته وماذا قال الجنرال والبطريرك والدكتور والعاشق المحروم ماركيز
إشراف ناصر عراق

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يجلس الكولونيل أورليانو بوينديا - بطل رواية مائة عام من العزلة - حزيناً.. لقد كان أول الواصلين حين داهمه الخبر المؤلم وهو ينظف سلاحه تحت خيمة منصوبة على أطراف قريته ماكوندو. يوزع بصره بين العشرات الذين خرجوا من الكتب، وهجروا الروايات والقصص وجاءوا إلى المكسيك يعتريهم فزع شديد.. يتأمل ملامح الميت فيدخل فى نوبة بكاء حارة.. لم يهتم الكولونيل بمنصبه الرسمى ولا بدلته العسكرية ولا حروبه الاثنتين والثلاثين التى خاضها بقلب جسور وخسرها جميعاً، ولا أبنائه السبعة عشر الذين قتلوا كلهم فى ليلة واحدة، ولا زوجاته المجهولات.. لم يهتم بكل الواقفين والذاهلين والحزانى، لم يهتم حتى بالبطريرك الذى وصل إلى هنا بكامل ملابسه الرسمية ونياشينه الذهبية وأعوامه غير المحددة.. لم يهتم الكولونيل بأحد وترك روحه تنعم بلذة البكاء على الفقيد.

أما فلورنتينو أريثا - العاشق المحروم فى رواية الحب فى زمن الكوليرا - فقد هرع من قمرة الغرام، حيث كان يمارس الحب مع أنثاه الساحرة ذات الخمسة والسبعين عاماً، وأمر قبطان السفينة أن يتوقف فوراً عندما أخبره برحيل سيد الروائيين وإمبراطور الرواية.. لم ينتظر فلورنتينو أريثا حبيبته التاريخية لترتدى ملابسها وتلحق به، إذ لم يخطر بباله قط أن تكون أجراس الكنائس قد قرعت إعلانا بوفاة ماركيز. لقد انتظر العاشق الفذ من قرن إلى آخر - ودون تذمر - موت غريمه فى الرواية الدكتور خوفينال أربينو، حتى يظفر بمعشوقة الفؤاد، وهو ما تحقق له، لكنه أبداً لم يضع غياب «مخترعه» فى جدول أحوال الميتين.

اخترق فلورنتيو أريثا الحشود التى انهمرت على بيت ماركيز بالمكسيك، فعرفه معظم الحاضرين من ملابسه التى تعود موضتها إلى القرن التاسع عشر وملامحه التى تشبه «كلباً مضروباً بالعصا»، أفسحوا له الطريق إلى بهو الدار، حيث يرقد الرجل الوحيد فى هذا العالم الذى يعرف أسرار العاشق المنبوذ ومغامراته الليلية. اقترب فلورنتينو من الجثمان المسجى فى تابوت خشبى مرصع بورود كثيرة، فتساءل خاطره «كل هذه الورود من أجل ميت واحد.. حقا لقد كان ماركيز رجلا عبقرياً»! بعكازه وسنواته الثمانية والسبعين انحنى بطل «الحب فى زمن الكوليرا» ليعاين وجه «أجمل رجل ميت فى العالم»، فرنا إلى حاجبيه الكثيفين وعينيه النائمتين وشعره الأبيض، فانفطر قلبه ووضع وجهه فى راحتيه واستسلم لموجة نحيب صامت!



فى تلك اللحظة بالضبط، كانت فيرمينا داثا قد وصلت إلى حيث يقف أول عشاقها التى لم تتزوجه أبداً، فخشيت عليه أن يسقط من فرط الحزن والشيخوخة. لملمت ثلاثة أرباع القرن من عمرها واتكأت على أحزانها، واقتادته نحو زاوية قصية فى بهو الدار ليستريح على أول كرسى، لكنها لم تنس أن تلقى نظرة على جثمان ماركيز، فاكتشفت أن شاربه صار أجمل حين صبغه الزمن باللون الأبيض. أمسك فلورنتينو أريثا يد محبوبته كطفل تائه، والتصق بها ليحمى نفسه من ورطة السقوط على الأرض إذا خانته ساقاه النحيلتان، لكنه لم ينتبه أبداً إلى الدموع غير المرئية التى ظلت تذرفها فيرمينا على ماركيز الذى نفخ فى روحها، وجعلها تنافس عشيقات سابقات فى التاريخ والكتب، مثل: كليوباترا وجولييت وليلى وبثينة.

على الأرض.. عند حافة التابوت جلس سانتياجو نصار محزونا مقهوراً، لقد منحه ماركيز صك العبور بسلاسة فى أروقة الزمن حين اختاره ليكون بطل تحفته الروائية.. الأعجوبة «سرد أحداث موت معلن»، كان سانتياجو ما زال شاباً فى الحادية والعشرين برغم أنه قتل فى الرواية منذ أربعة وثلاثين عاماً تقريباً. لم يلحظ أحد كيف مرق الشاب القتيل بين الجموع التى تتزايد كل لحظة، ولم ينتبه أحد إلى أنه سانتياجو نفسه إلا حين صرخ الدكتور خوفينال أوربينو فى وجهه: «ألست سانتياجو؟». هذه الصرخة ألقت فى قلب زوجته فيرمينا داثا الذعر، إذ رأت رجل حياتها قد بعث حياً، فتعجبت متسائلة: «ألم يمت خوفينال قبل أعوام قليلة، وتركنى نهباً لوحدة فظيعة بعد زواج نصف قرن، فمن أين أتى؟»، ثم أخفت نفسها خلف ظهر العاشق القديم، وظلت تترصد زوجها بقلق!

لم ينتبه فلورنتينو أريثا إلى المأزق الذى سببه موت ماركيز، الذى جمع الزوج والزوجة والعشيق أمام جثمانه ليودعوه بعد نحو 28 سنة على احتلالهم أكرم ركن فى قصر الرواية العالمية. ولم يدر أنه الآن فى موقف صعب لا يحسد عليه، فماذا سيقول للدكتور إذا علم أن زوجته كانت تبادله الغرام منذ قرن من الزمان؟ وأنها الآن - بعد رحيل الزوج - استردت حيوية القلب ونشوة الجسد فى حضنه، وأنهما سعيدان إلى أقصى مدى برغم أنهما يبحران فى سفينة تعجز عن التوقف فى أى ميناء بسبب جائحة الكوليرا؟ ولعل ذلك ما دفع فيرمينا إلى الارتباك الشديد، إذ وجدت نفسها مختبئة خلف عاشق متهالك، ونظراتها موزعة بين زوج قام من الأموات، وروائى اختار العزلة الأبدية بعد نصف قرن من الإبداع الساحر.

لاح الدكتور خوفينال أمام التابوت مستمتعاً بأناقته المعتادة، بدلة كتان بيضاء فوق قميص أبيض ورابطة عنق غامقة، ممسكا بعصا من الأبنوس ومن جيب سترته تتدلى ساعة ذهبية ابتاعها من باريس. انحنى بصعوبة فوق جثمان الرجل الذى عبث بحياته وأدخله حظيرة الموت بسبب ببغاء طائشة.. مدّ يده ليلمس جفن ماركيز، وكأنه يريد أن يتأكد من أنه غادر حياتنا بالفعل.. ثم هتف كأنه يلقى درساً على تلاميذه فى كلية الطب: «انظروا جيداً.. إنه ما زال حياً.. ماركيز ما زال حياً.. لا تحزنوا ولا تقلقوا، فهذا النوع من البشر لا يموت أبداً». لم يسمعه سوى سانتياجو نصار الذى هب واقفا، بعد أن جفف دموعه بكم قميصه الملوث بالدم، وسأله بقلب واجف: «كيف لا يموت ماركيز، وقد جعلهم يقتلوننى غدراً وظلماً». سدد له الدكتور خوفينال نظرة استخفاف، واكتفى بأن ألقى فى أذنه هذه العبارة: «يا بنى.. لا أعرف إن كنت مظلوماً أم ظالماً، أرجوك.. لا تدخلنى فى مسائل الشرف»، ثم ترك موقعه ودار حول نفسه باحثا عن مقعد ليجلس. ومن عجب أن المقعد الشاغر الوحيد كان بجوار الكرسى الذى استقبل فلورنتينو أريثا، وهكذا مرّ الدكتور أمام زوجته، ولم يلحظها، لأنها راقبت حركته، فاستدارت فى الجهة المقابلة، لكن بعد أقل من ثلاثين ثانية لاحظت فيرمينا أن زوجها سليل الأسر الأرستقراطية قد استسلم لقوانين الغفوة، وانزلق نحو وادى النوم العميق غير عابئ بالجموع والدموع والجنازة، فانتهزت الفرصة وسحبت محبوبها، وتوجهت به نحو أريكة فى ركن قصى من البهو.

ازدادت الجلبة، وانهمر الآلاف على بيت أعظم روائى فى القرن العشرين، وشكلت الحشود القادمة من قرية ماكوندو أكبر كتلة بشرية فى هذا الحشد الجنائزى، وقد رفع شبان القرية لافتات عزاء وامتنان للرجل الذى أوجدها من العدم، وأدخلها أبهى صفحة فى كتب التاريخ، ثم أقبلت كتلة بشرية أخرى تحمل جثمان رجل خارق الطول، بالغ الجمال والوسامة، ويرفع شبابها ونساؤها لافتات كتب عليها «نحن أهالى قرية إستبان.. قرية أجمل رجل غريق فى العالم»، وقد لاحت بوادر مشاحنات خفيفة بين أهالى قريتى ماكوندو وإستبان بسبب إصرار كل منهما على الالتصاق بالتابوت والاستحواذ البصرى على جثمان ماركيز، لكن فجأة سُمع صراخ شديد اخترق الجدران، وأسقط النجفة المعلقة فى الصالة المجاورة، فكف البكاؤون عن البكاء، وتوقفت النساء عن الولولة، واشرأب الجميع نحو صاحب الصوت المخيف، فكان هو الرئيس «البطريرك المعجزة»- بطل رواية خريف البطريرك - وقد أزعجه الصخب، وضايقته المشاحنات، وهو يستمتع بغفوته على أريكة فخمة تعود إلى فترة حكمه السابعة. أفاق البطريك مرتعشا يتصبب عرقا وحنينا، إذ كان يحلم بأمه بائعة الدجاج فى السوق الشعبى، فصرخ آمراً الجميع بالصمت، إذ صاح «اصمتوا يا أوباش.. التوقيع أنا.. وأكرر أنا شخصياً».

لم يعرف أحد أبداً كيف استقرت هذه الأريكة الفخمة أمام التابوت الذى ينام فيه ماركيز للمرة الأخيرة، فمن قال إنهم أتوا بها احتراماً لفخامة الرئيس/ البطريرك الذى لا يموت، ومن زعم أن ماركيز نفسه هو الذى أوصى بتقديم كل المراسيم اللائقة فى جنازته إلى أهم شخصية روائية اخترعها، ومن قال إن الرئيس/ البطريرك اكتشف وجود هذه الأريكة فى المكان المميز أمام التابوت، وكان يجلس عليها أربعة أشخاص، فأمر حراسه بإطلاق الرصاص عليهم، وتصفيتهم فى الحال، ليستريح عليها دون إزعاج!

مثلما أفاق البطريك فجأة، وأطلق على الجميع رصاصات السخط لأنهم أزعجوه وأيقظوه من حلمه مع أمه، عاد سيرته الأولى، واضطجع على جانبه الأيمن، واستسلم لنعمة النوم فى ثوان، فارتفع البكاء، وانتشر اللغط، لأن سانتياجو نصار صرخ: «لقد اختفى جثمان ماركيز»، وانكفأ الناس على التابوت فوجدوه فارغا، إلا من الورود الكثيرة، وتبودلت اتهامات، وانطلقت تخمينات، وأقسم أحد الحضور أنه رأى جثمان ماركيز يرتفع إلى السماء، وأعلنت امرأة عجوز من ماكوندو أنه أخبرها بنيته فى الذهاب إلى شاطئ الكاريبى ليجرب الموت بطريقة أخرى، وغمغم الكولونيل أورليانو بوينديا: «إن الكل يكذب.. لأن لا أحد فى العالم يعلم ماذا سيفعل ماركيز بالضبط؟»، لكن فيرمينا داثا أشارت للجميع بأن يصمت، حين لاحظت السفير الكولومبى يدخل من البهو الرئيسى، فالتفتوا نحو السفير الذى قال بصوت معدنى: «لقد أحرقنا جثمان ماركيز».

هزت الجموع رؤوسها استسلاما لنهاية متوقعة، كما هى العادة، لكن فيرمينا داثا لم تملك نفسها من البكاء، فارتجف فلورنتينو أريثا، وتحامل على نفسه ونهض وأحاطها بذراعه غير عابئ بزوجها النائم، وودّ لو يقبّل رموشها التى التمعت بنور الدموع، لكنه تحرج من الزحام، وهمس فى أذنها بصوت عاشق ملهوف، أدركت جيداً رنينه السحرى المتدفق منذ القرن قبل الماضى: «حبيبتى.. لا تجزعى.. فماركيز حى، ويكفيه ويكفينا أنه أدخلنا كتب التاريخ ليزدان فن الرواية بحكايتنا المذهلة»!



موضوعات متعلقة:

نجوم الدرجة الثالثة فى سينما الأبيض وأسود «2».. حكاية صفا الجميل.. أجمل قبيح فى السينما المصرية مع محمد عبدالوهاب وأنور وجدى وصالح جودت

«ماركيز» عشق البيسبول ومارس الصحافة وشغلته السياسة!.. قال عن الصحافة: «إنها أجمل مهنة فى العالم»

الطبيعة نبع لا ينفد لدى الفنان جلال الدين الحسينى





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة