ست سنوات لم يتوقف فيها «بهى. إ. س» عن تقديم نفسه على أنه قاهر آلام المخ والأعصاب، ست سنوات بدأت بمحاكمته لتسببه فى قتل طفل بمحافظة الشرقية من خلال اختراعه وغلق عيادته بمنطقة العباسية، وانتهت بفتح عيادة أخرى بديلة بطريق مصر بلبيس الصحراوى ليمارس فيها مزاعمه من جديد على مواطنين بسطاء أنهكهم المرض ولا يستطيعون تحمل نفقات كبار الأطباء، فكانت النتيجة أنهم أصبحوا فريسة لـ«بهى» الذى لا يكف عن انتحال صفة الطبيب وإقناع المرضى بفعالية جهازه لتحصيل مئات الجنيهات.
ورقة إعلانات أمام قصر العينى تقودك للعيادة المهجورة:
ورقة صغيرة يلقيها عليك طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره أمام الباب الخلفى لمستشفى قصر العينى القديم، تقرأ فيها «لأول مرة فى العالم.. مصرى يعالج بعض أنواع الشلل فى أيام! وعلاج أمراض وإصابات المخ الصعبة وآلام الظهر وعلاج الانزلاق الغضروفى بدون جراحة.. 700 مريض دخلوا عيادته فوق كراس متحركة وخرجوا على أقدامهم».. العبارات السابقة تثير فى ذهنك تساؤلا يتعلق بحرص هذا الرجل على توزيع منشوراته أمام أبواب مستشفى قصر العينى المعروف عنه استقبال أكبر عدد من المرضى فى مصر.. وإذا كان لديك حظ وافر من التعليم والثقافة فبالتأكيد قد طالعتك الصحف ووسائل الإعلام مؤخرا بأنباء عن عشرات الشخصيات التى تنتحل صفة طبيب وتمارس أكاذيبها على المرضى مستغلة حاجتهم، أما إذا كان العكس فسيقودك حظك العاثر لتخوض تجربة العلاج على يد هذا الرجل وتنتظر مصيرك لعلك تجد ما ترجوه ويتحقق لك ما فشل فيه أطباء آخرون.
يزيد من اطمئنانك تدريجيا لخوض التجربة الكلمات البراقة التى تغلف الإعلان وشهادات الجودة التى يزعم الرجل الحصول عليها وصور المرضى من داخل وخارج مصر قبل وبعد شفائهم وهم يستطيعون تحريك أطرافهم بعد إجراء الجلسات فى عيادته المدون عنوانها ورقم هاتفها أسفل الإعلان، فتبادر بالحجز ويتم تحديد الموعد لك مقابل 80 جنيها على الرغم من أن الإعلان مدون فيه أن الطبيب يقدم تلك الخدمات مجانا ولا يهدف اختراعه للربح.
«اليوم السابع» تخوض المغامرة داخل المركز الوهمى:
مكالمة هاتفية لم تتجاوز بضع دقائق مع المساعدة الخاصة به، تم فيها تحديد موعد للكشف فى مركز «بهى» للعلاج الطبيعى الذى تحدد مكانه فى طريق مصر بلبيس الصحراوى، وعلى بعد أمتار قليلة من بوابة دخول المدينة الواقعة فى محافظة الشرقية، ترى فى انتظارك لافتة حديدية صفراء اللون تستند على جذع شجرة صغير مدون عليها عبارة «مركز نيور مصر للعلاج الطبيعى» تسلك الطريق الذى يبدأ باللافتة، فتجد فيلا تتوسط مساحة خضراء فى انتظارك يقوم عليها أربعة رجال بملابس رثة يقدمون أنفسهم على أنهم معاونون الطبيب وسيدتان ريفيتان، تبدأ الأولى منهما فى عمل الدعاية اللازمة للمركز معتمد على عبارات تظهر قدرة صاحب الاختراع على شفاء المرضى لإقناعك بأن اختيارك لهذا الطبيب تحديدا موفق، مستندة فى ذلك على الحوارات التليفزيونية التى أجراها الطبيب المزعوم، ويتم تجديد عرضها من وقت لآخر فى تليفزيون داخل المركز.
فور الوصول للمركز ادعى أحدنا إصابته بآلام فى الظهر تجعله لا يقوى على الحركة، وبناء عليه طلبنا كرسيا متحركا لتسهيل عملية الدخول، داخل المركز ذى المساحة الشاسعة والأثاث المتهالك والرائحة الكريهة المنبعثة منه، كانت شهادات التقدير تزين الحوائط، إحداها مدون عليها شهادات اعتماد من نقابة الأطباء وأخرى منسوبة لنقابة العلاج الطبيعى، إلى جانب عدة أخبار وحوارات صحفية ملصقة منسوبة إلى جرائد مجهولة تتحدث عن فعالية اختراع الرجل.
الدخول للمركز وإقناع القائمين عليه بصعوبة الحالة المرضية التى نصطحبها كان لازما للإسراع بإخبار الطبيب بدلا من الانتظار ما يقرب من نصف الساعة فى الخارج، وهذا ما حدث بالفعل دخل علينا رجل فى ملابس أنيقة تجاوز الممر سريعا إلى غرفة مكتبه، وبعدها بدقائق سمح لنا السكرتير بالدخول.
فى البداية سأل بهى عن الأعراض التى يشكو منها مريضنا فأخبرناه بأنها آلام فى الظهر تجعله لا يقوى على الحركة، وبعد رجوعنا لأطباء عدة طلبوا منا مبالغ باهظة مقابل لا شىء، رأينا إعلانه بالصدفة أثناء تواجدنا أمام بوابة قصر العينى القديم وكان بمثابة بادرة الأمل بالنسبة لنا.. سأل بهى عن «الأشعة» التى أجراها زميلنا المريض فنفينا إحضارنا لها.
بجوار مجموعة أجهزة وأسلاك كهربائية متناثرة هنا وهناك طلب الرجل من الزميل الصحفى أن يسترخى على سرير الكشف وبدأ يضغط على جسده ليتحسس مكان الألم، سأله فى البداية هل أخبرك الأطباء الذين ذهبت إليهم قبلى بضرورة إجراء عملية جراحية، فكانت الإجابة بنعم فرد عليه الرجل: لن نحتاج لعملية جراحية، سأجعلك تخرج اليوم سيرا على قدميك فقط أريد 10 آلاف جنيه، وعندما أخبرناه بأن المبلغ غير متوفر معنا الآن قال الرجل: اذهبوا وأحضروا المال وسأحتجز مريضكم هنا، فرفضنا وبعد جدال طويل نجحنا فى إقناعه بأن يسمح لنا بالذهاب وسنحضر الأموال فى اليوم التالى لنبدأ أولى جلسات العلاج كما أخبرنا بهى والتى تعتمد على جهاز موصل بعدة أربطة مولدة للتيار الكهربائى.
تركنا المركز بعدما طلب منا الطبيب المزعوم تصوير الحالة المرضية التى نصطحبها ليستعين بها فى الدعاية الخاصة به على موقعه الإلكترونى كنموذج عرض قبل وبعد استخدام الجهاز الخاص به، وبعدما انهمرت علينا عروض المبيت داخل المركز من قبل المساعدين له فكل منهم حاول تقديم أرخص العروض لإقناعنا بالمبيت فى الفيلا الممتلئة بما يقرب من 15 غرفة يبدأ سعر الليلة فى الواحدة منها 20 ويصل إلى 200 جنيه بدلا من العودة للعاصمة والسفر يوميا لتلقى الجلسات.
اللافت للانتباه أيضا أن لقاء بهى معنا انتهى بعدما تبادلنا نوعا من المنفعة المادية وتم الاتفاق على أن نحضر له مرضى مستشفى قصر العينى من مصابى آلام المخ والأعصاب لإجراء الجلسات بعيادته المتطرفة فى الصحراء مقابل %10 من مجمل المبلغ الذى يتم تحصيله من الحالة الواحدة.
الجهاز يعتمد على توليد طاقة كهربية وغير مرخص من وزارة الصحة:
يزعم الطبيب المزيف على موقعه الإلكترونى أن الجهاز ما هو إلا طريقة علاجية جديدة باستخدام تيار كهربى يتولد من الاختراع لعلاج أمراض وإصابات المخ والعمود الفقرى، والانزلاق الغضروفى، وأمراض الحبل الشوكى، وحالات ضمور المخ، وإصاباته مثل النزيف أو الجلطة، وذلك عن طريق توليد تيار علاجى كهربائى وهو «bhy’s c.» وهذا الجهاز له تردد منخفض وشكل خاص يتميز به عن التيارات العلاجية الكهربائية الأخرى، يستخدم فى تنبيه أو تنشيط الخلايا العصبية المسؤولة عن حدوث المرض ويتم تغير التردد وشدة التيار وطريقة العلاج لكل مريض ولكل مرحلة من مراحل العلاج، وهذا التغير يتم بناء على حالة المرض ومرحلته أثناء العلاج، وهذا التيار العلاجى الكهربائى الجديد يدخل إلى الخلايا المريضة عن طريق أقطاب متصلة بالجهاز وتوضع على المريض على سطح الجلد بدون أية جراحة وحاصل على براءة اختراع من عدة دول مثل مصر والسعودية وسويسرا وأمريكا، على حد قوله.
وكل هذه هى المعلومات المزعومة التى يوفرها الطبيب المزعوم على موقعه الإلكترونى، عن اختراعه الذى يتباهى بأنه الوحيد فى الشرق الأوسط الذى تمكن من الوصول لتقنياته العلاجية تلك، تسبب من قبل فى غلق عيادته فى قضية برقم 8702 جنح بلبيس لسنة 2008 بعد وفاة طفل نتيجة صدمة كهربائية تعرض لها فى المخ كما أظهر تقرير الطب الشرعى وقتها، وتم احتجازه شهرا مع النفاذ وأقرت وزارة الصحة بأن هذا الجهاز غير مرخص من قبلها، وبالرجوع إلى نقابة الأطباء العامة ونقابة أطباء العلاج الطبيعى للكشف عن اسم بهى فى قائمة الأطباء المعترف بهم كانت النتيجة أنه غير مسجل فى أى من النقابتين.
ويرد «بهى» على موقعه الخاص على جميع الانتقادات التى توجه إليه والملاحقات الأمنية التى تطوله من وقت لآخر قائلا: فى عام 1996م تجمع ضدى مافيا المخ والأعصاب بالقاهرة وقاموا بالضغط على وزير الصحة الذى بدوره أغلق عيادتى ومنعنى من العمل فلجأت إلى القضاء، فى عام 2004م حصلت على حكم ضد وزير الصحة يسمح لى بالعمل على اختراعى بعد إحضار ما يفيد بقوة وصحة الاختراع من جامعة القاهرة والقياس والمعايرة «مع أن براءة الاختراع تكفى وتغنى عن كل ذلك ولكن تلاكيك موظفى الوزارة لا تنتهى»، وفى الفترة التى لم أزاول فيها العمل قمت بتأليف أربعة كتب، هى علاج السمنة، المخ جوهرة الإنسان وإهداء الخالق جزء أول، المخ جوهرة الإنسان وإهداء الخالق جزء ثان، التربية المتكاملة للأبناء، وبدأت العمل مرة أخرى فى 2008م وبعد عام واحد قام موظفو النظام السابق الظالم بغلق عيادتى وتشويه صورتى فى الإعلام واعتقالى لمدة أسبوعين لأننى رفضت التوريث.
«بهى» ينقل نشاطه إلى العباسية هربا من عيون الرقابة:
بعد الحكم عليه ببضعة أشهر قرر «بهى» نقل نشاطه بالكامل إلى منطقة العباسية تحديدا فى شارع البوستة، وهو عنوان آخر مازال هذا الرجل خريج كلية العلاج الطبيعى جامعة عين شمس عام 1979، يدونه بالورقة الدعائية التى يتم توزيعها أمام قصر العينى، وبالتوجه إليه تبين أنه مغلق منذ شهور واستدللنا على ذلك من كم الأتربة التى تعلو الباب الخشبى الذى يحتل الدور الأرضى من عقار مكون من طابقين فقط، والقفل الذى يعلوه.
إجابات متباينة يتناقلها أهالى المنطقة، ما بين أناس يؤكدون فعالية علاجه وآخرين ينفون الأمر مرددين «ده راجل نصاب يقدم نفسه فى البداية على أنه يعالج المرضى بأجور رمزية وفجأة نعرف أنه يتقاضى آلاف الجنيهات بحجة أن الحالات مزمنة وعيادته مقفولة بقالها فترة»، الإجابة القاطعة كانت على لسان معاون المباحث أحمد إبراهيم الذى أكد لنا قيام حملة من قسم الوايلى والتموين بمداهمة عيادته بالعباسية بعد واقعة بلبيس بفترة صغيرة وبعد شكاوى عديدة تلقتها إدارة العلاج الحر وتم غلقها.
الدكتور صابر غنيم مدير إدارة العلاج الحر بوزارة الصحة يقول: توليت التحقيق فى الشكاوى التى تم تقديمها من مرضى وأساتذة طب فى كليات مختلفة فى تلك الفترة، وبالفعل تم غلق العيادة التى يزاول فيها هذا الرجل المهنة وتم شطبه منذ ذلك التاريخ من نقابة العلاج الطبيعى، ولا أدرى كيف استطاع أن يعاود ممارسة نشاطه من جديد فى مكان بعيد عن أعين الرقابة.
المحامى خالد فؤاد يقول إنه وفقا لقانون العقوبات وتهمة انتحال الصفة فإن القانون يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات مع تحمل المتهم كل التكاليف، وإذا اقترن انتحال الصفة بتزوير أوراق أو الشروع فى قتل فإن العقوبة تصبح أشد وتصل إلى 15 سنة سجنا، ومن حق النقابة التى ينتحل الشخص انتسابه لها أن تتضرر وتطلب تعويضا.
الحقوقى محمود فؤاد مدير مركز الحق فى الدواء، يقول هناك كثيرون يقومون بتزوير شهادات وادعاء أنهم أطباء وممارسة المهنة دون وجه حق، وتلقى المركز مؤخرا شكاوى تفيد بقيام ثمانى أشخاص بانتحال صفة طبيب وممارسة أكاذيبهم على المواطنين البسطاء.
وأضاف فؤاد: فى رأيى أن القنوات الفضائية ووسائل الإعلام هى وسيلة الترويج لمثل هذا الأكاذيب، وبالتالى نحن بحاجة لسن مزيد من التشريعات الصارمة التى تعاقب أولا منتحلى صفة طبيب بعقوبة رادعة، وفى نفس الوقت تمنع أى طبيب من الظهور فى وسائل الإعلام أو الإدلاء باستشارات طبية قبل الحصول على ترخيص من وزارة الصحة ونقابة الأطباء، فالفضائيات هى الباب الخلفى لتحقيق أرباح بالملايين.
ومن جهته قال الدكتور أسامة عبدالحى، وكيل النقابة العامة للأطباء: حالة الرجل تعتبر نصبا واحتيالا ولابد من اتخاذ موقف صارم معه حتى يكون عبرة لغيره وتوقيع أقصى عقوبة عليه لأنه يرتكب جريمة شديدة الخطورة وهى المتاجرة بآلام الناس وأمراضهم.





