انطفأت النار وفرغت أكواب الشاى وأرجع الثلاثة ظهورهم على المقاعد منهكين من الكلام، وهدأ الصوت فى الخارج، وسمعوا جميعًا صوت الكروان فى السماء، وفى جو شديد البرودة، وفى منتصف الليل يحلوا الكلام عن الحواديت والعفاريت دائمًا، خاصة لا يوجد هناك مصباح ولا كهرباء ولا تليفزيون ولا شىء غير الكلام إضاءة القمر هي التي تضئ الشوارع، واللمبات الجاز تشتعل فى البيوت، وصوت ماكينات الرى في الحقول، فتحلوا السهرة أمام موقد الجاز ذو الشعلة الزرقاء على حصيرة ومساند من القش وقلة ممتلئة بالمياه الباردة، وراديو صغير على صوت عبد الوهاب.
همس أصغرهم بصوت منخفض مرهق الحنجرة: اليوم كان المولد كبير سيدك سلامة كان عريس الليلة مدد يا سلامة مدد، فغير أكبرهم جلسته وتهيأ للحديث، ولكن يبدو عليه علامات الغضب، رد باندفاع : وحد الله بلاش كلام فارغ ،هذا شرك بالله، مازلت أتعجب من هؤلاء الناس، يخرجون فى كل عام بالصوانى ممتلئة بالطعام والشراب واللحوم، يعتقدون أن هذا يقربهم للمقام الرفيع، ثم ابتسم بسخرية ربنا يهديهم، فرد عليه الثالث بتعجب: سيدك سلامة أنت مش خايف على عمرك ؟ قال له: لا سيدى ولا سيدك، ده لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ده في عالم الأموات وفى حياة البرزخ، سمعت الشيخ يقول في المسجد هذا الكلام، وهو لا يملك لهؤلاء الذين يطوفون حول قبره شيئًا، فقال الصغير، الشيخ قال هذا ؟
وما رأى الشيخ والقرية كلها كانت فى الشوارع تهتف بسلامة ويلعبون ويفقرون برقابهم يمينًا ويسارًا ويتمسحون بالمقام؟ ثم تابع خليك يا مولانا في كلامك يا رب الليلة تعدى عليك على خير وسلامه يسيبك في حالك، ثم ضحك ضحكة عالية وارتفع الصوت، فقال له بضحكة يخفيها والله لن يفعل شىء القدر كله من عند الله، ولا سلامة ولا غيره!
وما رأيكم أن نذهب الآن عند المقام، نحن الثلاثة لترى السكون فى المقابر ولا شىء هناك والكل سواء، سلامة وغيره ؟
فقال أوسطهم بتحدٍ وما رأيك أن تذهب وحدك ؟ فقال بتعجل وشجاعة لا يحسد عليها ، اذهب ولما لا ؟
ثم استنكر ذلك في داخله وتردد ولكن فات الميعاد وانطلقت الكلمة ولم يعد في إمكانه استرجاعها نظرًا للحرج، قال لهم وإن ذهبت ووقفت عنده ولم يحدث لى شىء، ماذا تفعلون؟ قالوا نعطيك عشرة جنيهات، فقال لا الرهان حرام، قالوا ليس رهانا نعطيك كهدية فقط، فوافق، ثم سكتوا جميعًا، وأشعلوا النار من جديد وعلقوا على شاى ورفعوا صوت الراديو.
فقال أصغرهم فكيف نعرف أنك ذهبت هناك؟ قال: بسيطة سوف أدق هناك وتدق من الخشب وسوف ترونه بعد صلاة الفجر فسكتوا إرضاءً للفكرة ولم يعلق أحد، وانتهت السهرة وحان وقت الرحيل وذهاب المتحدى للمقابر لتنفيذ الأمر.
فذهب وحده فى الظلام الدامس بين البيوت المنخفضة والأشجار المرتفعة ويرفع ثوبه من على الأرض خشية أن يصيبه ماء المطر، ويصافح وجه الهواء البارد ويسمع نبيح الكلاب فى أذنه كل دقيقة، الدنيا حالكة الظلام لا يكاد يرى يديه، لقد غاب ضوء القمر بين السحاب وأنزلت السماء قطراتها تندد بالمطر، ظل يتحدى نفسه ويهتف بصوت مرتفع بذكر الله، ولكن الوساوس ليست عنه بعيده، ولأن الإنسان خلق ضعيفًا وهلوعًا، تذكر كلماتهم عن العفاريت والجان والنداهة وأبو رجل مسلوخة وكل ما شابة ذلك من تخاريف وقصص لا واقع لها، فراوده الشك والخوف وصارعه الجدال في داخله بين الواقع والخيال، والشيطان يوسوس له، ولن أذكر لك فزعه عندها سقطت ورقة الشجرة فوق رأسه فارتفع من على الأرض مرة، ومرة أخرى عض لسانه أثناء ذكره عندما فاجئه كلب أسود في الظلام!
رأى أمام عينيه خيال المقابر، فانخفضت دقات قلبه، وفزع من هول المنظر، فأسرع الخطى وقرر العودة، ولكن تذكر ضحكهم عليه في الصباح ،عندما يعرفون انه لم يذهب وأنه خاف من المقام، فأخذ الوتد وأسرع ليدقه بسرعة كالبرق ويهتف بصوت عالٍ، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله ، يا رب سلم ،، فانتهى من دق الوتد، وقام ليذهب فلم يستطع القيام.
ارتعش كل جسده ،وسمع دقات قلبه بأذنه، فقال بصوت يسمع المقابر كلها، يا رب يا رب، اندفع بكل قوته وعزمه أن يقف لم يستطع، طرف ثوبه مشدود نحو باب القبر، فقال بخوف وصوت مرتعش، خلاص يا سلامه أرجوك سبنى!
ثم أغمى عليه، وعند الفجر لم يروه فى المسجد كعادته، فظنوه أنه حدث له أمرًا وحلت عليه لعنة سلامة، ثم صلوا وذهبوا عند المقام يهمسون بأذكار الصباح والابتسامة على شفاههم، ولكن المفاجأة كانت عندما رأوه نائمًا على باب المقام، فاندهشوا وضحكوا كثيرًا، قالوا: أنمت هنا الليلة كلها ،يا أخي صدقناك ،وظلوا يوقظوه، ففتح عينيه وفزع وصرخ، سبني يا سلامة، فقالوا له: سلامه ؟ هو عمل فيك إيه؟ ثم كانت المفاجأة التي ظلوا يضحكوا عليها كل ما جاءت سيرة المولد، لقد رأوه من شدة خوفه وسرعته، دق الوتد على طرف (الجلابية ) فأمسكه فى الأرض فظن أن سلامة يعاقبه، فأغمى عليه!
