عطر الأحباب .. محمود مرسى الموهبة الفذة فى تاريخ فن التمثيل .. استقال من الإذاعة البريطانية عام 1956 احتجاجاً على العدوان الثلاثى

الجمعة، 18 أبريل 2014 09:51 ص
عطر الأحباب .. محمود مرسى الموهبة الفذة فى تاريخ فن التمثيل .. استقال من الإذاعة البريطانية عام 1956 احتجاجاً على العدوان الثلاثى محمود مرسى
إشراف - ناصر عراق

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
نقلا عن اليومى :

من منا لا يحب محمود مرسى؟ ومن منا لا يرتعد من فرط الرعب إذا سمع صوته وهو يصرخ فى «شىء من الخوف»؟ ومن منا لا تذوب مشاعره من همس الحنان حين يلمحه ناصحًا أقرباءه ومعارفه برقة بالغة فى «أبو العلا البشرى»؟

فى مقاله «الأستاذ» يقول الناقد الكبير كمال رمزى فى كتابه «نجوم السينما العربية.. الجوهر والأقنعة»، واصفا محمود مرسى: «المفروض أن يكون عنوان هذا المقال «الغابة»، ذلك أن محمود مرسى بغموضه ورهبته.. وسحره.. بكثافته واستقلاله وطابعه الخاص يذكرك بالغابة، فهو عالم كامل، مبهم ومثير، وقد يبدو ساكنا من الخارج، لكن ما إن تتوغل فى أحراشه حتى تجد أشكالا وألوانا من الأشجار والكائنات، بعضها مسالم هادئ أليف.. وطيب ولطيف، وبعضها الآخر عدوانى، وحشى الطباع.. بالغ الشراسة.. مفترس.. يثير الهلع والرعب فى النفس».

إن هذه الفقرة تعد تلخيصا بارعًا لفناننا المتفرد، ولا تنس أن كمال رمزى تمتع بالجلوس فى مقاعد الطلاب، حين كان محمود مرسى يلقى عليهم دروسه فى أكاديمية الفنون فى ستينيات القرن الماضى.

المثقف الاستثنائى
ولد محمود مرسى فى 7 يونيو 1923 بالإسكندرية، والتحق بكلية الآداب قسم الفلسفة بجامعتها، ويبدو أن الصبى والشاب محمود مرسى تأثر كثيرًا بالمناخ المنفتح الذى كانت تتسربل به عروس البحر الأبيض المتوسط فى النصف الأول من القرن العشرين، فعشق المسرح والسينما، وأتقن اللغتين الإنجليزية والفرنسية إتقانا، وأذكر أنه قال فى حوار نادر أجراه معه كمال رمزى ونشرته فى «دبى الثقافية» حين كنت أتولى موقع مدير تحريرها.. قال: إنه شاهد جورج أبيض على المسرح عام 1938 فافتتن بأدائه الآسر وحضوره الطاغى.

درس مرسى فنون الإخراج السينمائى فى معهد «الأيدك» بفرنسا، ثم غادر إلى لندن ليعمل بالإذاعة البريطانية ممثلا ومخرجًا ومعلقا فنيًا، لكنه استقال احتجاجًا حين شاركت بريطانيا فى العدوان الثلاثى ضد مصر عام 1956، وعاد إلى القاهرة ليعمل مخرجًا بالبرنامج الثانى بالإذاعة، حيث قدم مسرحيات آرثر ميللر وتينسى ويليامز وتشيكوف، ثم عمل مدرسًا للإخراج المسرحى فى معهد الفنون المسرحية، ثم التقطته السينما ليقدم أول أفلامه «أنا الهارب» لنيازى مصطفى الذى عرض للمرة الأولى فى 5 نوفمبر 1962، ليحقق نجاحًا مدهشًا، دفع المخرجين والمنتجين إلى ملاحقته ليستعينوا به فى أفلامهم، لكنه لا يختار سوى ما يتفق وقناعاته بوصفه ممثلا غير عادى يتكئ على ثقافة عريضة وفهم عميق للشخصية التى يؤديها.

عتريس العملاق
هناك مشهد فنى باذخ فى بداية فيلم «شىء من الخوف» يوضح بجلاء الأداء العبقرى للفنان الراحل العظيم محمود مرسى.. هذا المشهد يتلخص فى الآتي: الجد -عتريس- ملقى على الأرض بعد أن صادته طلقات نارية من أحد كارهيه وهو يحاول أن يفتدى حفيده عتريس.. الشاب الرقيق الذى انكفأ فوق جده المحتضر ليستمع إلى نصيحته الأخيرة. يصرخ الجد مطالبًا حفيده بالانتقام من كل أهل القرية الأوباش الذين تجرأوا على ملكوته وسطوته، آمرًا إياه بأن يقسم بذلك، هاتفا بصوت مبلل بحشرجة الموت: «احلف.. احلف يا عتريس».

هنا تنتقل الكاميرا بين ملامح الجد القاسى الذى تفصله عن الموت ثوان معدودات، وبين وجه الشاب المسالم الذى وجد نفسه فجأة مطالبًا بالقتل ثأرًا لجده! لعلك تتفق معى أنه من الصعب جدًا أن يصدق أحد ما أن الذى يجسّد الدورين -الجد والحفيد- هو شخص واحد، ذلك أن المسافة النفسية والعمرية، ومن ثم أسلوب الأداء وإيقاع الصوت وارتعاشة النبرة.. كل ذلك يختلف اختلافا جذريًا بين الشخصيتين.

فى هذا الفيلم المتفرد فى تاريخنا السينمائى الذى أخرجه حسين كمال «عرض فى 3 فبراير 1969» تتجلى عبقرية محمود مرسى وثقافته العريضة، فلم يطارد الرجل أسلوب الأداء الشائع للشرير فى أفلامنا.. ذلك الأداء الذى يتلخص فى رفع الحاجب الأيسر أو جحوظ العينين أو التواء الفم فى أثناء ممارسته البطش بالضعفاء أو التآمر على الأقوياء، لا لم يفعل ذلك، وإنما استولد لنفسه أداء مغايرًا يتفهم جيدًا طبيعة كل شخصية يتقمص حالتها، حتى لا يتورط فى فى أداء ساذج ومسطح، أو يستسلم لتقاليد بالية فى فن التمثيل رسخها ممثلون ظهروا قبله.

الليلة الأخيرة والخائنة
فى فيلم الليلة الأخيرة لكمال الشيخ، الذى عرض للمرة الأولى فى 23 ديسمبر 1963، يبرع محمود مرسى فى تجسيد شخصية الرجل المخادع الذى يزوّر فى أوراق رسمية، مستغلا حالة فقدان الذاكرة التى انتابت شقيقة زوجته، وعندما تحوم الشكوك حوله يسعى جاهدًا من خلال نظرات مرتبكة وتقطيب الحاجبين للحيلولة دون افتضاح أمره.

فى هذا الفيلم أمسك محمود مرسى الحالة النفسية للرجل الغشاش بحذق مدهش، فجاء تمثيله منضبطا ومقنعًا، لا إسراف فى المشاعر بدون داع، ولا خطابية فى الأداء أو الحركة، يعاونه بنيان جسمانى ضخم يربك كل من يحاول أن يتصدى لمكائده وألاعيبه.

أما فى فيلم «الخائنة» الذى أخرجه كمال الشيخ أيضا وعرض للمرة الأولى فى 15 نوفمبر 1965 فقد أبهر محمود مرسى جمهوره وهو يؤدى شخصية محامٍ ناجح يكتشف خيانة زوجته، لكنه عجز عن أن يعرف من هو العشيق؟ فكاد يجن حيث أصبحنا نرى نظرة الخذلان فى عينيه، وارتعاشة شفتيه نظرًا لموقفه المهين.

تذكر من فضلك كيف توترت انفعالاته وتصاعدت تدريجيا وهو يخطط لمحاولة اكتشاف عشيق زوجته الغامض، وكيف انفجر كمجنون فى وجه أصدقائه المشكوك فى سلوكهم، مستعينا بحركة جسد مترددة.. تتقدم.. وتتراجع.. تهم.. وتتخاذل فى إيقاع بالغ الروعة والسحر يرتقى بفنون التمثيل إلى ذرى غير مسبوقة.




ليل وقضبان
عندى، يظل دوره فى فيلم «ليل وقضبان» مثالا ناصعًا للممثل المثقف الذى يتكئ على معارف جمة، تعاونه على اصطياد الحالة النفسية والوجدانية لمأمور سجن غليظ القلب، محروم من نعمة الرحمة.. لا يتردد لحظة فى التخلص من المساجين المشاغبين.. وفجأة يكتشف أن زوجته -سميرة أحمد- تخونه مع أحد نزلاء السجن -محمود ياسين- فتتفجر طاقاته التمثيلية إلى أقصى حدودها، ونراه هدفا لمشاعر شتى تتلاعب فى عينيه ووجنتيه وشفتيه، خاصة أن من اكتشف الخيانة مرؤوسه الصول توفيق الدقن، الأمر الذى يعنى أن المأمور الجبار الذى ترتعد له جدران السجن مجرد رجل غافل لا يعرف كيف يحافظ على شرفه بالمعنى الشرقى فى نظر الصول!

من فضلك تأمل اضطرابه وهو جالس فى مكتبه ينتظر اتصال زوجته طالبة العشيق/ الشاب الذى يصلح لها الكهرباء، وكيف اعتراه الخزى حين سمع توفيق الدقن يرد عليها، مؤكدًا أنه سيرسله حالا! لقد صار فى تلك اللحظة نهبا لكومة من المشاعر المتناقضة والصاخبة، وقد تجلى كل ذلك فى عينيه وانحناءة رأسه بصورة تؤكد أننا أمام ممثل خارق.

المتعة الصافية
أنت تعلم أن إبداعات محمود مرسى لم تقتصر على السينما فقط، بل له فى الدراما التليفزيونية نصيب عامر، فمن ينسى مسلسل «العملاق» الذى جسد فيه شخصية العقاد، ومسلسلات «أبوالعلا البشرى/ عصفور النار/ سفر الأحلام/ بين القصرين/ قصر الشوق/ لما التعلب فات/ بنات أفكارى» وغيرها.. وكلها مسلسلات أتاحت لمحمود مرسى مساحات أوسع ليفجر طاقاته التمثيلية لأبعد مدى ما جعله يستحق أن يوضع ضمن قائمة أفضل ممثلين عرب على مر التاريخ، إن لم يكن أفضلهم من وجهة نظرى.. وهم: زكى رستم وحسين رياض ومحمود المليجى وصلاح منصور.

بالنسبة لى لا يوجد شىء يشبه المتعة من متابعة أداء محمود مرسى إلا النشوة التى تعترى المرء عند سماع سيدة الغناء العربى أم كلثوم وهى تشدو بإحدى أغنياتها التى ترنمت بها فى الفترة من 1940 حتى عام 1960.

أذكر أننى كتبت مرة فى مجلة الصدى حين كان يعرض له مسلسل «بنات أفكارى» مطالبًا جميع الممثلين أن يتعلموا منه، من أداء هذا الفنان الفذ، ويبدو أننى سأظل أطالب كل من يسعى لاحتراف فن التمثيل أن يتعلم من الأستاذ.. محمود مرسى.

حقا.. إنه نعم الأستاذ!


موضوعات متعلقة ..


نجوم «الدرجة التالتة» فى سينما الأبيض والأسود «1»..مشاهير الظل يعرفهم جمهور السينما بقفشاتهم ولا يعرف أسماءهم

يحيى الطاهر عبدالله.. صديق المغفلين والمندهشين والبلهاء .. ابنته أسماء تروى تفاصيل الحادث المؤلم الذى أودى بحياته وهم ذاهبون فى رحلة إلى الواحات





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة