كنا قديما فى القرية شبه منعزلين عن العالم المحيط، فلا كهرباء ولا طرق أسفلتية ولا سيارات. فى مثل تلك الظروف تجد الناس يحاولون إيجاد تسلية خاصة بهم.
فكانوا يجتمعون للسمر. الرجال تحكى والنساء والأطفال بجوارهم يستمعون. كل رجل يحكى عن قصة أو مغامرة حدثت معه. بعض تلك القصص تبدو حقيقة والبعض الآخر تبدو مختلقة. والغريب فى الأمر أن أحدهم يروى حكاية سبق وأن رواها من قبل مرات ومرات.
والأغرب أن المستمعين يبدون نفس الاهتمام كما لو أنها حكاية جديدة. هذا ما يدفعه للمبالغة بصورة أكبر واختلاق أحداث أكثر لروايته. ولما لا والمستمعون يتمتعون بذاكرة السمك. فى الحقيقة هم ليسوا سمكًا ولم ينسوا شيئًا، لكنهم مستسلمون لمبالغة الراوى فى محاولة لتمضية الوقت والأنس ببعضهم البعض لأطول فترة ممكنة.
فى ذلك المجتمع المنغلق ذو الوجوه المألوفة والمحددة، تبدو قصص الجن والعفاريت المادة الأكثر دسامة. وهى حال المجتمعات المنغلقة حيث الاهتمام بالغيبيات أكثر من الواقع. فكانوا يحكوا لنا عن الجنية وكيف أنها تسكن قاع النهر. وكيف أنها تحدد عددًا من ستأخذهم غرقى كل عام.
يقف الشيخ معلنًا أن الجنية زارته بالأمس وأعلنت أنها فى حاجة إلى ثلاث طاقيات وأربعة إيشاربات. أى أنها ستقتل سبعة هذا العام ثلاثة من الذكور وأربع من الإناث. هذا المحتال ليس شيخًا فى مسجد، إنما مبتدع يقوم على أمر المولد فى القرية ويعيش على تبرعات للولى الصالح صاحب المقام. وهو أيضًا من يجمع أضحيات القرويين ليبعد عنهم شر الجنية.
جدى كان مفتونًا بالسحر وأخباره مع أنه ليس بساحر، بل قارئ فى كتب للسحر جمعها من مكتبات قديمة.
واقتنع جدى أنه يملك اتصالا مع الجن. فراح يحكى لنا كيف أنه يسمعهم ينادونه باسمه. وكيف أن الجنية تمشى على صفحة النهر أمامه وتكلمه. وكيف أن شعرها امتد حتى أطراف أصابع قدميها. وكيف أن ملابسها الممزقة تكشف عورتها ، وكيف وكيف!
جدتى شعرت أن جدى بدأ يأخذ مكانة أكبر عندنا بقصصه عن الجن. فزاحمته هى الأخرى بما عندها من قصص مختلقة. وكيف أنها عند انتصاف الليل وكل الناس نيام. ولا صوت إلا صوت الصمت. قد استمعت إلى صوت خلف الشباك. وكيف أنها نظرت من ثقب بين الأخشاب. وكيف أنها رأتها. نعم رأتها. جدتى أيضًا رأتها. يالا روعتك يا جدتى. رأيتى الجنية! نعم ورأيتها جالسة على ضفة النهر وحولها أعداد من البنات والأبناء. وأنها كلما جاعت أكلت واحدًا من منهم.
وتنتهى القصص بين القرويين. ويخرج كل إلى داره وزوجته ممسكة بملابسه من الخوف. والأبناء قد ناموا رعبًا وحملهم الوالدين إلى البيت. ويبقى جدى وجدتى يتباريان فى ذكر مآثرهما مع العفاريت. حتى إنى أخاف الذهاب إلى الحمام. أتخيل الجنية وهى تأكلنى كأولادها أو تجرنى غريقًا إلى أعماق النهر. وفى الصباح تقوم جدتى بتبديل الفراش من تحتى. لا أعرف من أين أتت تلك المياه إلى فراشى! لابد وأننى قد خرجت من النهر حيًا.
