◄◄ «سوما»: نقل الجثث على العربة «الكارو» أشعرنا بأننا فى حرب وقتلانا من الأعداء
◄◄آمال: الأهالى لجأوا لقسم الشرطة فرفضت التدخل والضباط طالبوا الشباب بأخذ حقهم بأياديهم
يجلسن فى صمت يستقبلن عزاءً فى عزيز باغتهم بموت لا يعرفن له سبباً، نساء صامتات تبكين أبناءً وأزواجا فقدوهن فى صراع قبلى أشعلته عبارات مسيئة، وأججه خلاف ثقافى وبطء أمنى.
هذا هو المشهد الذى سيقابلك إذا حاولت الحديث مع النساء من أمهات وزوجات المتوفين فى أحداث اشتباكات أسوان التى وقعت الأسبوع الماضى بين أهل قرية «دابود» النوبية و«الهلايل» بعد كتابة عبارات مسيئة على جدران أحد المدارس تسببت فى وقوع اشتباكات عنيفة وصل عدد المتوفين فيها لـ 26 قتيلا وعشرات المصابين.

الفاجعة التى تلت أحداث أسوان لا تقتصر فقط على قتلى سقطوا من الجانبين ولكنها تركت فى نفوس ذويها «حرقة قلب» لأمهات وزوجات وأطفال فقدوا ذويهم، كما أنها تمثل ذكرى من الصعب أن يمحوها الزمن وحفرت فى قلوب أبناء الجنوب «دابود» النوبيين و«بنى هلال» الصعايدة شرخا ليس من السهل علاجه.
«اليوم السابع» قابلت أرامل وأمهات وأيتام الصراع القبلى فى مشهد يعبر بصورة مصغرة عن ضحايا لم يقترفوا ذنبا، دفعوا ثمن أمر ليس لهم دخل به.
فى بيت بسيط يتوسطه رجل مسن مريض، لا يدرك بحكم مرضه أنه فقد فلذة كبده، تجلس أرملة «عبدالظاهر» أحد المتوفين من أبناء «دابود» النوبية، والذى قتل برصاصة، بينما يتفقد محل الأدوات الصحية الذى يملكه.

لا تقتصر مظاهر الحزن بمنزل عبدالظاهر فاروق على نساء يبكين وآخرين يتلقون العزاء، لكنه يمتد إلى نجله الذى يجلس مطأطأ الرأس، ويجد صعوبة فى الحديث، وزوجته التى تلتزم الصمت.
منى حسان، زوجة «عبدالظاهر» قالت: مات زوجى يوم الأحد الماضى فى الاشتباكات، على الرغم من أنه لم يكن طرفًا فى المشكلة، لكنه سقط خلال محاولته إنقاذ المحل.
وتابعت قائلة: كنا نجلس فى منزلنا وقت الاشتباكات، وأخرجنى زوجى أنا وأبنائى من المنزل عندما زادت، ونقلنا لبيت أهلى خوفًا من تعرضنا لأذى، ثم اتجه للشباب محاولًا تهدئتهم ومنعهم من الشجار، وعندما أبلغوه بأن محله يحترق هرول إليه مسرعًا لإنقاذه، فإذا برصاصة تأتيه من أعلى وتستقر برأسه وتسقطه قتيلا.
تقول شقيقته: نتخوف من الاحتكاك بين أبنائه وأبناء «الهلايل» فى المدرسة حتى أننى طالبت المدرسين بالفصل بين الطرفين فى الفصول الدراسية، ومنع التلاميذ من الحديث عن وفياتهم.
ويقطع كلمات شقيقة «عبدالظاهر» صوت نحيب زوجة والده وهى تردد: «الحنين مات»، وتقول: كان الفقيد معروفًا بحنانه ومساعدته للجميع، فكان يساعد والده المريض ويساعدنى وأشقاءه الصغار، والآن تركنا جميعًا.

من منزل «عبدالظاهر» لمنزل آمال ونادية اللتين فقدتا أبناءهما، لم يختلف الأمر كثيرًا، فصوت القرآن الذى يصعب معه تمييز صوت آخر، وأصوات النحيب تقابلك بالمنزل بمجرد أن تدخله.
تقول «آمال» التى فقدت نجلها الطالب بالصف الثالث الثانوى: ابنى راح ضحية لضعف الأمن، ورفضه التدخل للفصل بين الطرفين، موضحة أنه بعد وقوع الحادث بيوم سقط ابن عم نجلها «ماهر» قتيلًا، وعندما ذهب «ماهر» إلى الشرطة ومعه مجموعة من الشباب يطالبونهم بالتدخل، رفضوا قائلين: اذهبوا واحصلوا على حقكم بأيديكم.
وتضيف «آمال» التى تعمل مدرسة بمدرسة محمود عثمان الابتدائية إنها لا تستطيع التدريس مرة أخرى فى المدرسة التى توجد بها أغلبية من «الهلايل»، موضحة أنه من الصعب عليها التعامل معهم، أو التدريس لهم بعد وفاة نجلها.
«آمال» التى بدت متماسكة أمام وفاة نجلها الشاب تريد أن تنهى الصراع خوفًا من سقوط ضحايا جدد من الطرفين، مطالبة الأمن بالقيام بدوره، ووقف هذا النوع من المجازر.
نادية حنفى محمود التى فقدت نجلها مصطفى حسين، الطالب بالمدرسة موقع الاشتباكات، وابن عم «ماهر»، قالت وهى تتذكر نجلها: «كان طيب وملوش فى المشاكل» مضيفة: ذهب نجلى لصلاة الجمعة، وأثناء خروجه من المسجد كان الطرفان قد بدأوا النزاع.
لم تكن تتخيل «أم أحمد» النوبية من عزبة «الشوشاب» أنها ستفقد نجلها، وتتخفى فى أكياس حفظ الموتى لتخرج من بيتها حية هى وبقية أبنائها. «أم أحمد» قالت: كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة ليلًا عندما بدأ الشجار ليلة الجمعة، وبالمصادفة بات زوجى خارج المنزل، وكان نجلى نائمًا عندما زادت الاشتباكات، وسمعت صراخ ابنة أخ لزوجى، فأيقظت «أحمد» الذى هرول مسرعًا ووقف خلف الباب مع زوجة عمه لمنع «الهلايل» من اقتحام المنزل. فقاموا بإطلاق النيران عليه بشكل كبير، فسقط أحمد وزوجة عمه قتيلين.
واستكملت: فى هذا الوقت تسللت أنا وأختاه الصغيرتان إلى سطح المنزل، حيث اختبأت بـ«عشة» تربية الدجاج، وظللت مختبئة 8 ساعات، خوفًا من أن يرانى أحد من «الهلايل»، وبعد اتصالات قام بها الجيران نجحوا فى إرسال عربة إسعاف أنزلتنا متخفين فى أكياس موتى خوفًا من الأذى.
بصوت مبحوح، ولسان مل من الحديث عن حادث صعب، استقبلتنا صباح فهمى، والدة الفقيد أحمد عبدالمجيد الدابودى، قائلة: توفى «أحمد» يوم الجمعة بعد صلاة الظهر أثناء الاشتباكات التى وقعت بين الجانبين، ومات بعدها مباشرة.
«أميرة»، يتيمة فقدت والدتها أمام عينيها وأخاها الصغير، وعن ذلك قالت: فقدت أمى أمام عينى وأخى الصغير ذا الـ15 عامًا فى أثناء محاولة «الهلايل» اقتحام منزلنا، وإطلاق النيران علينا، ثم سرقوا كل ما فيه من ذهب وملابس وأجهزة ونقود وتركوه ورحلوا.
«أميرة» كانت واحدة ممن قام «الهلايل» بخطفها كرهينة فى أثناء الصراع، ثم أطلقوا سراحها.
فاجعة «الهلايل» فى زوجاتهم وأبنائهم لم تختلف عن «الدابودية»، ومن بينهم زينب درى، أرملة عبدالعزيز صلاح، الشاب الثلاثينى الذى سقط هو واثنان من إخوته فى أثناء اعتداء النوبيين على منزلهم بالسيل الريفى.
داخل منزل «عبدالعزيز» تجلس زوجته مع أبيه الذى لا يتوقف عن ترديد كلمة واحدة «حسبى الله ونعم الوكيل، وحق ابنى مش هيروح»، أما والدته فتكتفى بالصمت والبكاء، مرددة «هقول إيه.. التلاتة ماتوا».
وتقول «زينب»: لن أسامح من قتل زوجى ويتم أبنائى، فهم هجموا علينا كأننا فى حرب، وليس مجرد مشاجرة، وتعاملوا معنا بعنف غير مسبوق، وحرقوا منازلنا عن آخرها، وخرجنا منها هاربين بصعوبة.
وتضيف وهى تتذكر يوم قتل زوجها: كانت الساعة تقترب من الثالثة فجر يوم السبت، عندما سمعناهم يهجمون على منازلنا، وقتلوا زوجى وحرقوا جثته، واستطعت بصعوبة الهروب من المنزل مع أبنائى الذين شاهدوا أباهم يموت أمام أعينهم.
وفى منزل تخيم عليه أجواء الحزن، وتعلوه أصوات الصراخ، تجلس «سوما» المرأة العشرينية، أرملة علاء سيد الذى توفى وترك طفلين صغيرين، قائلة: «مفيش حاجة هتعوضنى عن دخلة جوزى عليا، وعلى عيالى»، ويقطع حديث «سوما» صوت والدة زوجها صارخة: «ابنى رموه من الدور التالت بعد ما موتوه، ده يرضى مين».
أصوات النحيب وملامح الغضب فى بيت زوجة «علاء» لا تتوقف، فالجميع لا يعترف بالصلح مع الطرف الآخر، ويطالب بالقصاص، ومعاقبة الجناة، وأولهم- كما يؤكدون- مدير أمن أسوان.
تعود «سوما» لحديثها ثانية، وهى تحتضن ابنها قائلة: «ابنى بيسألنى كل يوم بابا راح المظاهرات ليه، ومات هناك»، ولا أستطيع إخباره بأن والده مات مقتولًا، وتم التمثيل بجثته.
استخدام العربة «الكارو» فى نقل جثث «الهلايل» أمر لم تنسه «سوما»، وترى فيه إهانة كبيرة لأمواتهم، قائلة: نقل الجثث بهذه الصورة جعلنا نحس بأننا فى حرب وقتلانا من الأعداء، رفضوا فى المستشفى حفظهم فى الثلاجات، وقاموا برميهم على الأرض، وقام مجموعة من أهل الخير بدفنهم إكرامًا لهم.
«أميمة»، فتاة صغيرة شاءت الأقدار أن ترى أباها وأخاها يقتلان أمام عينيها فى ذكرى لن تستطع نسيانها.
«أميمة» قالت: كنا نائمين ليل يوم الجمعة، واستيقظنا فجأة على أصوات الصراخ من البيوت المجاورة، وإذا بهم يهجمون على منزلنا، ويأخذون أبى يقتلونه ويحرقونه ومعه أخى. وكانت «سيدة» بدورها تتلقى العزاء فى أبنائها وأشقائها عندما توجهنا لها، وبصعوبة بالغة فى الحديث، قالت: «اتنين من ولادى ماتوا وأخواتى، وولاد عمى خدوهم غدر وضربوهم ووضعوا جثثهم على عربة كارو».


