فى السابق كان يقال عن مهنة الصحافة، أنها مهنة المتاعب.. ومن كان يقول ذلك من شيوخ المهنة كان يقصد المتاعب العادية التى يلاقيها الصحفى فى سبيل القيام بعمله.. ونحن فى حلّ من ذكر هذه المتاعب لأنها ليست خافية على أحد.. فما يقع من أحداث على الأرض تجرى متابعته من خلال آلة التصوير التى يستخدمها الصحفى، ومن خلال عينيه يرصد البعد الإنسانى الذى لا ترصده آلة التصوير.. وهو بذلك يمثل المصدر الذى من خلاله نطل جميعاً على العالم.. فمن خلال الصحفى نرى الصورة ونقرأ الخبر ونتعرف على وجهات النظر فى كل مناحى الحياة. فلو تصورنا ـ جدلاً ـ إضراب جميع الصحفيين فى جميع أنحاء العالم عن العمل، فلم تصدر جرائد ولا مجلات لا ورقية ولا إلكترونية، وتوقفت النشرات الإخبارية التليفزيونية عن الصدور، فهل يمكن تصور شكل العالم على هذا النحو؟. وهل يمكن تصور وجود علاقة من نوع ما بين الإنسان والعالم خارجه؟. أعتقد أنه يصعب فى العصر الراهن تصور الحياة دون وجود تلك العلاقة الحية بين الإنسان وعالمه على نحو فاعل عن طريق مهنة المتاعب.. ومن يمتهن الكلمة يدرك أنها كماء البحر، لا تروى ظمأً، بل إنها تؤتى أثراً عكسياً، كلما شربت منها كلما شعرت بمزيد من العطش، الذى يدفعك إلى مزيد من الشرب. ومن هنا ستجد من فرسان الكلمة من يتجشم فى سبيل أداء رسالته العناء، لأن فى ذلك محاولة لتحقيق الارتواء الذى لا يتحقق. بل قد يصل الأمر إلى دفع الحياة ثمناً من أجل الواجب الذى حملوه على عواتقهم.
وقد كانت أخطر المتاعب التى يمكن أن يتعرض لها صحفى منذ أن عرف العالم الصحافة هى القتل. ولم يكن ذلك يحدث إلا مع المراسل الحربى على جبهات القتال، وغالباً ما كان يصاب الصحفى أو يقتل قدراً نتيجة تبادل إطلاق النار بين القوى المتحاربة. وفى الغالب يكون الصحفى فى مأمن إذا ما تبين لأحد جانبى التقاتل أنه صحفى من خلال شارة يرتديها على صدره، أو صديرى يحمل إشارة الصحفى من الأمام ومن الخلف معاً. ويرجع ذلك إلى أن طرفى النزاع كان مشغولاً بنقل الحقيقة إلى العالم، ومحكوماً بمجموعة من المعايير والقيم الأخلاقية قبل أن يفقد العالم أخلاقه من قبل، ويفتقدها اليوم. ليس معنى ذلك أن الصحفى لم يكن مستهدفاً بالقتل على هويته الصحفية، لا. فقد جاءت فترات على العالم فقد فيها عقله ورشده، وعمد إلى فقأ عينه. فعلى مدى فترات الاحتلال الصهيونى لفلسطين سجل التاريخ اغتيالات لصحفيين عرب وأجانب. وإبان الغزو الأمريكى لأفغانستان والعراق عمدت قوات الاحتلال إلى تصفية الصحفيين، وفى فترات الحروب الأهلية كذلك سواء فى لبنان أو العراق كانت تحدث تصفية جسدية للصحفيين. وقد تعرض بعض الصحفيين والكتاب المصريين فى فترة التسعينيات للاغتيال، ومحاولات الاغتيال، من جانب الجماعات الإرهابية التى حملت السلاح فى مواجهة الدولة. ومنذ اندلاع ثورة يناير فى مصر، مروراً بثورة يونيه، تعرض الصحفيون للامتهان على أيدى أعضاء جماعة الإخوان، سواء أكان هذا فى صورة تهديدات أو فى صورة احتجاز، أو احتجاز مصحوباً بإهانات وتعذيب وترهيب، أو فى صورة إصابات مباشرة فى مناطق مُعجَزة، أو فى صورة قتل مباشر. وقد كان من أشهر الصحفيين الذين اغتيلوا مرتين، الصحفى الحسينى أبو ضيف، الذى جرى اغتياله حياً بإطلاق الرصاص على رأسه، وجرى اغتياله ميتاً بزعم انتمائه للجماعة. وقد كان آخر الصحفيين الذين جرى اغتيالهم مرتين كذلك، الصحفية الشابة ميادة أشرف فقد جرى اغتيالها قنصاً من جانب الجماعة، ثم زعمت الجماعة أنها صحفية تنتمى للجماعة، وقد افتضح أمر الجماعة فى الحالتين.
وقبل أيام جرى إطلاق الرصاص الحى على اثنين من الصحفيين الشبان فى مظاهرات طلاب الإرهابية فى جامعة القاهرة، وقد اختلفت الروايات حول من أطلق الرصاص. ما يشغلنى فى هذا الإطار هو الإجراءات الواجب اتخاذها من جانب الدولة، ومن جانب النقابة، ومن جانب رجال الأعمال المالكين للصحف التى يعمل بها هؤلاء الصحفيون لحمايتهم ضد مخاطر المهنة، لأنه يستحيل القول بالاستغناء عن العمل الصحفى فى تغطية الأحداث الراهنة ولو مؤقتاً، خاصة فى ظل امتلاك الجماعة الإرهابية لجهاز إعلامى جبار لا يكل عن العمل ساعة واحدة من ليل أو نهار، والدولة فى حاجة ماسة إلى من يجابه هذا السيل العرم من الأكاذيب المتدفقة بالحقائق التى ينقلها الصحفيون من مواقع الأحداث. فليس من العسير على رجال الأعمال توفير التمويل اللازم لشراء الأدوات اللازمة للوقاية من الرصاص من سترات ضد الرصاص وخوذ ونظارات خاصة لحماية منطقة الوجه. وليس من العسير على الشرطة أو الجيش التعاقد على هذه الأدوات. ويتعين على النقابة قيد هؤلاء الصحفيين لديها حتى يتسنى التأمين عليهم ضد مخاطر المهنة المحتملة. صحيح أن الكلمات لا يغتالها الرصاص، وإنما يغتال قائلها. والمهنة لا يقتلها الرصاص وإنما يقتلها الإهمال. وقد آن الأوان أن يتم تقديم من يغتال الكلمة والحق فى المعرفة والحق فى التعبير عن الرأى إلى محاكمة عادلة ناجزة.
اشتباكات بجامعة القاهرة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة