سأحدثكم عن أحمد.. هاااااحححح
يقول المتحاملون إنه ثعبان زرعته أجهزة أمنية فى حديقة الإعلام لتنفيذ مهام خبيثة، فأقول أنا لا أحب التحامل، يقولون إن بحوزتهم صورا له وهو فى طريقه لابتلاع سمكة، وعندما تم فضحهم روجت الأجهزة بنفسها الصورة وكتبت تحتها «ثعبان ينقذ سمكة من الغرق»!، وحتى هذا الدليل لا أعتبره إدانة، فما العيب أن يتغذى الثعبان إذا كان طعامه السمك؟، يا أصدقائى أريحوا أنفسكم أنا لا أحب أن أصدر أحكام إدانة ضد أحد، وأنسجم جدا ورجل العصابة فى أفلام الأكشن الأمريكية يقتل زميله بكل هدوء والابتسامة على وجهه وهو يقول له: «نوت بيرسونال إتس بيزنس».. كل واحد بيقوم بمهمته ودوره فى الحياة، وعلينا أن نتعلم الاختلاف بود، لننفى عن أنفسنا أباطيل الأعداء الذين يدعون أننا أمة قسمت بيتها وفرقت أولادها لأن الشافعى قال يجوز وابن حنبل قال لا يجوز، فتحول الخلاف من رحمة إلى مقتلة!
- ما المشكلة إذن؟. ولماذا نتحدث عن هاااححح؟، هل المشكلة أنه يكذب؟
قديمة.. ثمة امبراطوريات تكذب، وكذبة أحمد بأى حال ليست أخطر من كذبة بوش فى حرب العراق، كذبة أحمد فردية، ويمكن تفاديها بالضغط على الريموت وتغيير المحطة، لكن المؤسف هو الكذب الذى لا يمكن تفاديه.
- طيب هل المشكلة فى الدعاية والمبالغات والتضخيم والتفخيم من جهة والتقليل والتهدم من جهة أخرى؟
ربما، لكن أليس هذا من صميم لعبة الإعلام منذ نشأته؟
- هل هذا يعنى أن الإعلام هو المشكلة، وبناء عليه نقفل الصحف ونلغى التليفزيونات ونخلص؟
مممم!!.. الأمر يستحق التفكير، لأن الإعلام فعلا هو المشكلة، لكن حلها ليس فى التخلص منه، لأن أحدا لن يستطيع مهما حاول، قد نتحدث عن خطط إصلاح، أو هيكلة، أو ميثاق شرف، أو منظومة قوانين وخلافه، لكن هذا كله يجب أن يسبقه شىء مهم، وهو تشخيص وفهم الحالة التى وصل إليها الإعلام وليس أحمد، لأن أى أحمد ببساطة لا يمكن إمساكه، فهو يدعى أنه لا يريد، ويقول لك «الشعب هو الذى يريد»، فسلطة الإعلام غير السلطات التقليدية خالص، بمعنى أنه يمكنك أن تسأل الوزير من منحك سلطتك؟، فيقول: رئيس الوزراء. وتسأل رئيس الوزراء فيقول: رئيس الجمهورية، وتسأل العقيد فيقول اللواء أو القانون أو حتى الله، لكن لو سألت المذيع فيمكنه أن يقلب الإجابة تماما ويقول لك: أنت، وهنا منبع التلاعب والدوران (لاحظ تصريحات السيسى الأخيرة التى تعد نموذجا لدائرية الدولة، حيث يلقى على المواطن بمسؤولية رجل الدولة ويحمله الأزمات كنوع من التخفف ومع زيادة تمكين السلطة يمكن التملص تماما.. واربطوا الأحزمة). هكذا يتم توريطك بحيث لا تجد فرصة لطرح أسئلة من نوع: بأى حق يتكلم هذا؟، ولماذا يقول؟ لأن الرد سيأتيك: منك. أنت الذى فعلت، أنت السلطة.. أنت نور عينينا.. هاااااححححح.
إنه دوران هائل وتضليل بالكلمات، وابتزاز مفتوح لا نهاية له، فأنت عندما تسأل لا يعطيك أحد إجابة بل يقول لك: أنت الإجابة، أو سؤالك هو الإجابة. وهذا ما يقول عنه بودريارد بأنه «سفسطة لخنق الكلام واستخدام حرية التعبير كذريعة ليقولون لك دائما: أنت السبب. أنت من فعلت.. هذا رأيك.
فى رأيى أن هذا هو «الانقلاب» كما كتبت عنه قبل 3 سنوات، انقلاب مخادع ومربك فى المفاهيم، وهذا الانقلاب هو سر خطاب التلاعب، ليس فى الإعلام وحده، ولكن فى كل المجالات، فالسلطة توهمنا أننا السلطة عن طريق محو بعض مظاهرها على المسرح باستخدام الكلمات، فالمذيع يعمل من أجلك، والشرطة فى خدمتك، والعسكرى إيده تنقطع لو اتمدت عليك، فأنت مصدر كل سلطة، وكله منك وإليك، وهذا هو الفخ الذى نصبته الديمقراطية الغربية عن طريق اصطناع شرعية تحت السيطرة بآلية محكومة اسمها الانتخابات، ظاهرها أن صوتك هو الذى يأتى بالرئيس، وجوهرها أنها خاضعة لسيطرة قوى مالية وإعلامية وتنظيمية، سعادتك مجرد «نفر فيها»، ولو تجاسر أحدهم بالحقيقة لقال لك: صوتك لا هيودى ولا هيجيب مش عايزينه، لكن المتلاعب العاقل هو الذى يعرف ذلك ويقول لك بنعومة: صوتك أمانة ويحرضك على المشاركة فى التمثيلية حتى تصدقها أنت وغيرك، وإذا صدمتك المواقف المتناقضة للمتلاعبين وسألتهم لماذا يعتبرون عزل رئيس منتخب فى مصر «انقلاب» وعزله فى أوكرانيا «انتصار للديمقراطية»، هذا أمر يمكن تبريره بمزيد من الكلام الملتبس وإضافة مكسبات طعم ورائحة عن كوستاليتا الإرهاب، والفاشية المشوية، وهكذا يصيح اللص «امسك حرامى» لاصطناع الفوضى والتضليل حتى يهرب.
المسألة إذن ليست أحمد، لكنها التمثيل الواقعى، والخديعة القادمة من تجربة تليفزيون الواقع التى بدأت فى أمريكا عام 1971 بتصوير تفاصيل حياة عائلة لود لمدة 7 أشهر مستمرة. 300 ساعة من التصوير المباشر كرست فكرة «أنتم الأخبار. أنتم الموضوع. أنتم الحدث، وأى تكذيب للمشهد سيكون موجها ضدكم». هكذا صار التليفزيون هو الذى يتفرج علينا، ويصنع منا الحدث، ويمارس التضليل بدلا من التنوير، ويدخلنا متاهة الحيرة والبلبلة بدلا من إرشادنا إلى الحقيقة، فاللقطة المصورة يتم شرحها عشرات المرات بكلمات متباينة ومتعاكسة، ويستخدمها كل طرف ليقول بها مقولته الخاصة وليس مقولة الحدث الفعلى، فلم نعد نعرف هل هذا القتيل مجرم أم شهيد؟، وهذه المظاهر المسلحة فى الشارع قمع أم أمن؟، حتى أن وسائل إعلام كبرى اختلفت فى تأويل خطاب السيسى العلنى، بعضها اعتبره تلميحا صريحا بالترشح، وبعضها قال إنه ابتعاد عن موضوع الترشح وتجنب للحديث فيه!، وبما أن المواطن الباحث عن الحقيقة أصبح نادرا جدا، فإن أحدا لن يبحث عن أصل الخطاب، فقط سيجد الجمهور أمامه عدد هائل من النسخ «الملونة» بأهواء كل وسيط إعلامى، وكل واحد يختار ما يريده وليس ما كان، فالإغراق أدى إلى إخفاء الأصل، وهكذا أصبحنا نعيش فى عالم تزداد فيه المعلومات أكثر فأكثر، بينما يقل المعنى أكثر فأكثر، يزيد الكلام وتقل اللغة (أشهر علماء اللسانيات دو سوسير يفرق بين اللغة والكلام، فالكلام حاجة فرط كده بينما اللغة نسق وعلم له قواعد)، ونحن فى عصر انتشار الكلام، كل وسائل الاتصال تحرض على المزيد من الكلام على حساب اللغة، ويحضرنى هنا مثال يمكننا أن نتأمله معا: العالم الأمريكى كلود شانون مخترع أسلوب الديجيتال، توصل إلى طريقة توصيل الرسالة (أى رسالة) عن طريق قتل هويتها، ومحو معناها الرمزى، وتحويلها إلى مجرد حساب رياضى كمى لا يرتبط بلغة الرسالة الأصلية، بحيث تتساوى فى الديجيتال صورة انجلينا جولى، مع صوت محمد منير، مع هدف ميسى، مع انفجار فوكوشيما، كلها فى النهاية مجرد ترتيب رقمى يبدو متشابها (زيرو - واحد) 0101 01، هكذا فقد الإعلام روحه، وصار المهم هو الاتصال والتوصيل والتواصل، أما توصيل ماذا؟ أو الاتصال لماذا؟، أو التواصل مع من؟ فهذا أمر (مش مهم خالص) أصبح فى الهامش، فأنت تستيقظ لتفتح التليفزيون لا لهدف معين، لكن الأمر تحول إلى عادة وعبادة، وكذلك الأمر فى مواقع التواصل الاجتماعى، فأنت تجلس كالعبد أمام الفيس، ليس لتقوم بمهمة ما، أو تبلغ أحدا برسالة ما، ولكن لتتواصل فيما هو متاح ولحظى وطارئ لك وللموجودين بالصدفة، المهم تملأ الفراغ، وتصطنع مواضيع وتعليقات حتى لو مكررة ومنقولة من غيرك، أو فارغة من المعنى ولا تمثلك أساسا.
قبل أن أقوم لألحق الدردشة على الفيس لدى سؤال: هل وسائل الإعلام وحدها هى المسؤولة عن قتل المعنى وتنميط كتلة الجمهور، أم أن هناك شركاء وممولين ومتواطئين ومستفيدين؟، وهل تفعل ذلك لصالح السلطة؟ أم أننا سنفاجأ فى النهاية بأن الجمهور (على طريقة أجاثا كريستى) هو المجرم الخفى الذى قتل المعنى لأنه يريد إعلاما للمتعة.. مجرد «شو» يعتمد على المشهد والاستعراض. فى المقال القادم نكمل
من وقت إلى آخر، حاولوا أن تفهموا ما يحدث. لا تتركوا الحياة للأغبياء.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة