إشراف ناصر عراق
«تعلن أفلام المصرى أن الظروف حالت فى العهد الماضى دون تسجيل اسم واضع قصة هذا الفيلم، ويسرنا أن نعلن فى عهد التحرير أن فكرة القصة من وضع الأستاذ فتحى رضوان».

بهذه العبارة يستهل المخرج أحمد بدرخان مقدمة فيلمه المهم «مصطفى كامل» الذى قامت شركته «المصرى» بإنتاجه، وعرض للمرة الأولى فى 14 ديسمبر 1952، وهذا هو الفيلم الأول - حسب علمى - الذى يتناول ثورة 1919 فى السينما المصرية، إذ إنه من الصعب أن تسمح قوات الاحتلال الإنجليزى بإنتاج فيلم عن ثورة الشعب ضد جنودها، لذا ما إن قامت ثورة يوليو 1952، وأصبح الاحتلال الإنجليزى على كف عفريت، تجرأ صناع السينما وقرروا تسجيل وقائع ما حدث فى عام 1919.
صحيح أن مصطفى كامل رحل عام 1908، لكن أحداث الفيلم تبدأ من اندلاع الثورة فى التاسع من مارس عام 1919، وتستمر لمدة سبع دقائق تقريبًا، قبل أن يعود الفيلم «فلاش باك» ليقص علينا حكاية الزعيم مصطفى كامل، وهكذا يقدم لنا المخرج فى مشاهد سريعة لقطات حية تصور الحشود فى هذه الثورة وهتافاتها «سعد زعيم الأمة/ تعيش مصر حرة/ النيل لا يتجزأ»، ثم تقترب الكاميرا من شيخ معمم وقس يقودان معًا مظاهرة شعبية، وامرأة تستقل الحنطور ترفع العلم وتعلن بحرقة «تعيش مصر حرة»، بينما راح جنود الاحتلال الإنجليزى يطلقون النار على المتظاهرين.

بعد ذلك نرى حسين رياض، مدرس التاريخ الكهل، يقف أمام بوستر كتب عليه (ممنوع التظاهر بأمر الحاكم العسكرى 1919) والعلم الإنجليزى يحتل الجزء العلوى من البوستر، فيغضب المدرس ويمزق الإعلان، وقبل أن يهاجمه الجندى الإنجليزى بسونكى البندقية، ينقض عليه مجموعة من الشباب المصريين ليختفى من المشهد، وشرعوا على الفور فى تعليق بوستر آخر كتب عليه بالنص «إلى إخواتنا الطلبة المصريين.. الاجتماع اليوم بالأزهر 11/6/ 1919».
فى الفصل يفاجأ المدرس بطالب متحمس يوزع الثورة على زملائه بلسانه المفوّه، طالبًا منهم أن يشاركوا فى المظاهرات ضد الاحتلال، فيتذكر حسين رياض الطالب مصطفى كامل، الذى كان أحد تلاميذه فى زمن سابق، وتبدأ من هنا العودة إلى الماضى، لنطالع قصة حياة الزعيم الشهير!

بين القصرين
أما الفيلم الثانى الذى استلهم وقائع ثورة 1919 فهو «بين القصرين/ عرض فى 1964 للمخرج حسن الإمام» وهو مأخوذ عن الجزء الأول من الثلاثية موفورة الصيت لأديب نوبل نجيب محفوظ. فى هذا الفيلم يستعرض حسن الإمام الأجواء المصرية فى أثناء اندلاع الثورة، فنرى المظاهرات الحاشدة، و«قلب» الترام، وخطب الشيوخ والقساوسة فى الكنائس والمساجد، وخروج طلاب المدارس مطالبين بالاستقلال، ونذالة الاحتلال الإنجليزى الذى أطلق جنوده النار على المتظاهرين السلميين، وقد اعتبرت المشاهد المصورة فى هذا الفيلم ضمن وثائق ثورة 1919، فما من ذكر يأتى على هذه الثورة إلا وصاحبتها بعض مشاهد «بين القصرين».

تعال نطالع ما كتبه نجيب محفوظ فى رائعته عن كيف اندلعت هذه الثورة. يقول أعظم روائى مصرى واصفا مشاعر فهمى عبد الجواد، الطالب فى مدرسة الحقوق: «حقا لقد حيا فى الأيام الأربعة المنطوية حياة عريضة لم يكن له بها عهد من قبل، أو أنه لم يعرفها إلا أطيافا فى أحلام اليقظة، حياة طاهرة رفيعة، حياة تجود بنفسها عن طيب خاطر فى سبيل شىء باهر أثمن منها وأجل، تتعرض للموت بلا مبالاة، وتستقبله بعناد، وتهجم عليه باستهانة، وإذا أفلتت مخالبه مرة عادت إليه كرة أخرى متنكبة عن ذكر العواقب جانبا، شاخصة طوال الوقت إلى نور رائع عنه لا تحيد.. هانت الحياة كوسيلة حتى لم تعد تزن ذرة، وجلت كغاية حتى وسعت السموات والأرض، تآخى الموت والحياة فكانا يدا واحدة فى خدمة أمل واحد.. متى حدث هذا؟ وكيف حدث هذا؟ كان راكبا ترام الجيزة فى طريقه إلى مدرسة الحقوق، فوجد نفسه بين شرذمة من الطلاب يتناقشون ملوحين بقبضتهم، نفى سعد وهو يعبر عن قلوبنا، فإما أن يعود سعد ليواصل جهاده، وإما أن ننفى معه، وانضم الراكبون من الأهالى إليهم فى الحديث والوعيد حتى الكمسرى أهمل عمله ووقف ينصت ويتكلم.. ولما أقبلوا على فناء المدرسة وجدوه مكتظا صاخبا مرعدا فسبقتهم قلوبهم إليه، ثم هرعوا إلى زملائهم تحدثهم نفوسهم بحدث وشيك، وما لبث أن انبرى أحدهم مناديا بالإضراب.. وجرت الأمور سراعا، دعا الداعى إلى الخروج فخرجوا متظاهرين وتوجهوا إلى مدرسة المهندسخانة، فسرعان ما انضمت إليهم ثم إلى الزراعة فهرع طلبتها إليهم هاتفين كأنهم على ميعاد، ثم إلى الطب فالتجارة، وما بلغوا ميدان السيدة زينب حتى انتظمتهم مظاهرة كبيرة انضمت إليها جموع الأهالى وتعالى الهتاف لمصر والاستقلال وسعد».

ثم يواصل عم نجيب وصفه البارع لأحداث الثورة التى اشتعلت يوم الأحد، فيقول: «وجاء الثلاثاء والأربعاء فكانا كالأحد والاثنين، أيام متشابهات فى أفراحها وأحزانها، مظاهرات فهتاف فرصاص فضحايا، ألقى بنفسه فى خضمها جميعا، يندفع بحماس - يقصد فهمى - ويسمو إلى آفاق بعيدة من الإحساس النبيل، ويضطرب بالحياة ويعضه ندم على النجاة! ثم ضاعف من حماسه وأمله انتشار روح الغضب والثورة، فما لبث أن أضرب عمال الترام وسائقو السيارات والكناسون، فبدت العاصمة حزينة غاضبة موحشة، وترامت الأخبار حاملة البشرى بقرب إضراب المحامين والموظفين. إن قلب البلاد يخفق حيا ثائرا، ولن تذهب الدماء هدرا، ولن ينسى المنفيون فى منفاهم، لقد زلزلت اليقظة الواعية أرض وادى النيل».
انتهى الاقتباس من وصف محفوظ لثورة 1919 ووقائعها، وبقى أن تعرف أن نجيب نفسه شاهد طرفا من المظاهرات، وهو طفل لم يتجاوز الثمانية إذ إن أسرته كانت تقطن فى ميدان بيت القاضى بالحسين.

لقد بدلت ثورة 1919 وجه مصر تمامًا، وغرزت فى نفوس الشعب شجرة الشعور الوطنى للمرة الأولى فى تاريخه العتيد، فقد كنا نحسب أنفسنا مجرد مسلمين فقط ضمن أمة مسلمة تضم التركى والعثمانى والشامى والمغربى والأفغانى وكل من هب ودب، وكأن هناك تعارضا بين الدين والوطن، وهكذا فطن المصريون إلى أن لهم وطنا خاصا بهم يمتاز بخصال محددة تجمعهم ولا تفرقهم، فابتكروا الشعار المدهش «الدين لله والوطن للجميع»، وارتفعت الصيحات المبشرة «مصر للمصريين»، لا للإنجليز ولا للعثمانيين، فتأجج الشعور الوطنى، وصار الشعب يحلم ويتمنى، وما النهضة الفكرية والفنية التى ننعم ببقاياها حتى الآن سوى أثر طيب من آثار هذه الثورة الباهرة!
لذا أطالب صناع السينما فى مصر بالانكباب على دراسة هذه الثورة بعد مرور 95 عامًا على اندلاعها، من أجل استعادتها فنيًا، فما أحوجنا إلى أفلام تاريخية تضىء أجمل ما فينا، وهو كثير!.
موضوعات متعلقة..
القبلة فى الأغنية العربية أسئلة وأمنيات ووعود!
طريق الحرير.. سكة التعرف على الآخر قبل مئات القرون! جزيرة «فيلكا» بالكويت أول مركز حضارى فى المنطقة منذ 3000 عام
توفيق الدقن الشرير المضحك..90 عاماً على ميلاد صاحب أشهر «الإفيهات» السينمائية!