إذا كان خطابنا الدينى ينحصر معناه فى مجمل تعريفاته حول السعى لنشر دين الله تعالى عقيدة وشريعة وأخلاقًا وقيمًا، وكذا المعاملات، وبذل الوسع فى تحقيق ذلك، من أجل تعليم الناس ما ينفعهم فى دنياهم وآخرتهم، وإنفاق أقصى الجهد والطاقة لأجل خدمة هذا الدين الحنيف امتثالاً لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الخطاب أحوج ما يكون إلى قيم الوسطية السمحة، التى تستمد روحها وأهدافها ومبادئها من منهج النبى صلى الله عليه وسلم الذى «ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرَهما ما لم يكن إثمًا».
تلك الوسطية التى عمادها التوسط والاعتدال، توسطٌ متزن بين طرفين لا إفراط فيه ولا تفريط، توسطٌ اتصفت به الأمة الإسلامية والتزمت به فى أحكامها وتشريعاتها لقوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا»، توسطٌ ينهى عن التشدد المذموم، وينافى التطرف والغلو فى الدين الذى يؤدى حتما إلى الهلاك، يقول النبى صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو فى الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو فى الدين»، ولما جعل الله تعالى الأمةَ أمةً وسطًا، خصَّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج.
ولما كان المسلمون مطالبين بتبليغ رسالة الله تعالى عبر خطاب دينى إسلامى يقدم الإسلام بمضمون صحيح كامل، وأسلوب لافت للنظر، ظهرت الحاجةُ إلى أن يكون هذا الخطاب متسمًا بالوسطية والاعتدال، يدعو إلى التآلف وينهى عن الفرقة والشتات، يدعو إلى إعلاء مصلحة الأمة فوق ما عاداها من المصالح الضيقة، تلك الوسطية التى هى الحق والعدل الذى يكون سواه عوار سواء كان تفريطًا أو إفراطًا، والأولى بخطابنا اليوم أن يكون خطاب هداية ورحمة، يؤلف الناس لا ينفرهم من الدين.
ومن مظاهر تمسك هذا الدين بالوسطية واعتبارها منهاجًا عامًّا نهى الله تعالى عن الاعتداء والغلو فى جميع الأمور حتى فى الدعاء له عز وجل، مع أن الدعاء هو العبادة، حيث أمرنا بالتوسط فيه دون الجهر وفوق المخافتة، فقال الله عزَّ وجل: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا»، فالأمر بابتغاء السبيل بين ذلك يعنى أن يكون الدعاء تضرعًا دون الجهر وفوق السر، فهذا مظهر من مظاهر الأمر بالتوسط فى العبادة، التى هى الدعاء.
حتى فى طلب الناس للدنيا يأتى نهى الله تعالى عن الغلو فيها، فلم يأمر بترك الدنيا، كما لم يأمر بالاستغراق فيها، وكأن الإنسان لا محل له إلا هذه الحياة الدنيا، إنما أمر بالتوسط فيها، فالدنيا مزرعة يَتَبلَّغ بها الإنسان للآخرة، يأخذ منها بما أحله الله سبحانه وتعالى، ويعيش فيها فيما أباحه الله سبحانه وتعالى، ويستعد بذلك للآخرة، قال الله تبارك وتعالى: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ»، وهذا دليل على أن ترك التوسط والاعتدال فساد فى الأرض.
وأخيرًا فخطابنا الدينى بما أنه خطاب تبليغ وهداية للعالمين كافة وللمسلمين خاصة عليه أن يتزين برداء الوسطية، وأن يصبِغَ أدواته بصبغتها، وأن يجعل مضمونه لا يخلو من تلك المعانى الوسطية للدين الحنيف، كما أنه يقع على العلماء والدعاة عبء هذا الواجب، وهم المضطلعون بالتبليغ فى تبصير المسلمين بواجبهم نحو دينهم ومجتمعهم الذى يعيشون فيه، ومسؤوليتهم أمام الله عن حفظ هذا الدين، وعدم إشاعة الاضطراب فيه، تحت ستار الغلو فى الدين والتطرف فى فهم أحكامه، وإساءة تأويل ما أنزل الله على رسوله، تصديقًا لقول النبى صلى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدولُه ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين».
فضيلة المفتى د. شوقى عبدالكريم علام يكتب: من خصائص الخطاب الدينى.. الوسطية «2»
الإثنين، 31 مارس 2014 04:34 م