طيبة قلوبهم تعكسها وجوههم المبتسمة.. وأرواحهم تنطق بصفائها ملامحهم الهادئة.. تراهم يتبادلون الابتسام حتى فى أحلك اللحظات وأقساها، فبالرغم من معاناتهم وأمانى العودة إلى أراضيهم التى تشترك فى أحاديثهم جميعا فإن النوبيين يقسمون على حب هذا البلد ويرفضون أية دعاوى لتقسيمه أو فصلهم عن جذورهم حتى إن كانت الأنظمة الحاكمة السابقة لم تنصفهم.
«نحن قوم مسالمون لماذا إذن تخشانا الحكومة؟» تساؤل يرفعه أهالى النوبة وتجده يتردد على لسان سكان جنوب الصعيد كلما حاول البعض المتاجرة بقضيتهم، فهم يتبرأون من أى لهجة حادة هجومية تلعن الظروف التى تمر بها البلاد وتدفعهم للانفصال وتصبح أقصى أمانيهم هى الاعتراف بحقوقهم وردهم إلى بيئتهم التى ألفوها على ضفاف النيل قبل أن يُرغموا على الرحيل عنها.
صراع طويل خاضه النوبيون مع حكومات مصر قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير وبعدها، منذ ما يقرب من قرن مع بداية عملية التهجير مع بناء خزان أسوان 1908 مرورا بآخر عملية تهجير للقلة الباقية منهم مع بناء السد العالى وحتى وقتنا هذا، لكى يتم الاعتراف بحقوقهم وتعويضهم عن الخسائر التى تكبدوها بشكل مُرض، حتى جاءت أحداث 30 يونيو وتم تعديل الدستور الذى وضعته جماعة الإخوان، ووضعت مادة لأول مرة فى تاريخ الدساتير المصرية، حملت رقم 236 ونصت على إعادة توطين النوبيين وتنمية المنطقة خلال 10 سنوات من الآن.
«اليوم السابع» تفتح ملف المشاريع التنموية المقترحة فى منطقة النوبة وأسوان، وما ينقص أهالى تلك البقعة من أرض الوطن من خدمات وبنية تحتية فى إطار الحديث عن وجوب إعادة تعمير تلك الأراضى وطلبات الأهالى المقدمة للرئيس المقبل.
.jpg)
أول قرية عادت للنوبيين
لافتة كبيرة مدون عليها «قرية السلام» تتوسط مساحة لا تتجاوز بضعة كيلو مترات تحتفظ ببقايا 44 منزلا متراصة عليها، يتمسك أهلها بأبسط معالم الحياة فيها حتى إن اختفت منها أهم الخدمات مقارنة بالمناطق الأخرى.. كلمات بسيطة يلقيها على أذنك كبار القرية تفسر لك سبب عشقهم لهذا المكان، فتلك القرية شهدت إعادة توطين أول دفعة مهجرة من أبناء النوبة فى عهد الرئيس الراحل أنور السادات، عندما علم الأخير برغبة أهالى النوبة فى العودة إلى أراضيهم فور تقديم مقترح إعادة تعمير أراضى بحيرة ناصر.
«فوجئنا بخبر تمكين الصعايدة الصيادين من الأراضى لتنميتها فذهبنا لرئيس الحكومة آنذاك، وقلنا له إن أبناء النوبة أولى بأرضهم فذهب بدوره للرئيس أنور السادات رحمه الله وقال له النوبيون يقولون إنهم الأحق فوافق الأخير على الفور، وأعاد لنا أرضنا» بهذه الكلمات بدأ محمد عرابى أحد كبار أهالى القرية وأول من عاصروا مرحلة العودة حديثه، متذكرا عندما كلف «السادات» لجنة عمل كان واحدا منها لدراسة المنطقة عام 1978.
يضيف عرابى ساردا تاريخ تلك القرية التى يتوسطها حجر الأساس الذى وضعه «السادات» خلال زيارته الأولى للمكان: عندما قرر السادات تعمير منطقة بحيرة ناصر، قال من الأولى أن يفعل ذلك النوبيون أنفسهم وبالفعل تم تسكين 11 منزلا من أبناء قرية أبوسمبل المهجرين مع بناء السد العالى فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر و33 منزلا لصالح أبناء قرية بلانة الذين عاشوا لفترة فى نوبة التهجير «النوبة الجديدة».
.jpg)
حب أهالى القرية للرئيس «السادات» مرتبط بمشهد العودة الأول ونضال أقرانهم الآخرين لاسترجاع أراضيهم حتى وقتنا هذا، وكذلك مقولة وزير الإسكان الأسبق فى عهده المهندس حسب الله الكفراوى لأهالى النوبة عندما توفى السادات: «إذا كنتم تطمعون فى مزيد من الحقوق.. فوالدكم مات». زيارة الرئيس الراحل كما يرويها عرابى تزامنت مع صرخة أول مولود سمُى على اسمه: عندما جاءنا الرئيس لأول مرة استقبلته بزوج من الحمام وقلت له «حمام السلام يا ريس.. فى قرية السلام.. حبا فيك يا ريس».
عشرات السنون مرت وما زال أهالى قرية السلام يفتقدون دعم أبيهم الروحى كما يقولون عنه دائما، والآن لا يبقى فى القرية التى هجرها عدد كبير من أهلها نظرا لقلة الخدمات فيها، سوى مدرسة واحدة تتكون من طابق واحد تزينها لوحات ومقاعد خشبية مهترئة ورغم ذلك ما زالت تفتح أبوابها لاستقبال ما يقرب من 400 طفل من القرى المجاورة فى المراحل الابتدائية والإعدادية.
.jpg)
يضيف عرابى: عندما بدأنا فى تعمير المكان طلبنا من الحكومة وحدة صحية ومدرسة «الفصل الواحد»، ومع مرور الوقت طورنا المدرسة وأصبحت تستقبل أعدادا كبيرة ولكن حالها سيئ للغاية، ونفس الحال بالنسبة للوحدة الصحية.
إعادة التوطين وتنمية النوبة خلال السنوات العشر المقبلة، تلك المادة التى نص عليها الدستور الجديد تزيد من آمال أهالى قرية السلام فى تحسن أوضاعهم، فيقول عرابى: كل ما نتمناه أن يتم إنشاء وحدات سكنية لشباب القرية بعدما نفدت إمكانياتنا المادية فى محاولاتنا لإنشاء بيوت بالجهود الذاتية، إضافة إلى توفير فرص عمل لهم خاصة أن غالبيتهم يعانون من البطالة فالنوبيون تم تهجيرهم أربع مرات، وحصلوا على تعويضات زهيدة لا تتناسب وحجم الخسائر التى خسروها.
37 عاما هى الفترة التى قضتها «عائشة» فى قرية السلام، بعد أن قررت أن تترك وظيفتها فى مجلس المدينة، وتمكث مع زوجها فى القرية ويعتمدان على بيع المحاصيل التى يزرعونها، تقول عائشة شاكية سوء الأوضاع فى القرية: لا توجد شبكات صرف صحى هنا وحتى الوحدة الصحية الموجودة بالقرية لا يتردد عليها سوى طبيب واحد، ومن المفترض أنها طب أسرة وأى سيدة توشك على الوضع ترحل عن القرية قبل ولادتها بشهر، وتذهب للإقامة فى المدينة وهناك مشاكل صحية أخرى تتعلق بوفاة حالات مرضية فى طريقها لمستشفيات المدينة نظرا لنقص الإمكانيات الموجودة فى الوحدة.
وتضيف: إذا تحدثت الحكومة عن تعمير النوبة فأولا لا بد من تعويض الأهالى بشكل مناسب، ونحن قبل بناء السد كنا نعيش على ضفاف النيل وحرفتنا الأساسية الزراعة ومساحة بيوتنا ثلاثة أضعاف مساحة البيوت التى حصلنا عليها ولا تتجاوز بضعة أمتار، كل ما نريده من الرئيس المقبل توفير الخدمات فى قرى النوبة القديمة.
موضوعات متعلقة..
«أبوسمبل» أرضنا العطشانة..2400 فدان من أراضى الخريجين تعانى الجفاف.. والأهالى: رجل أعمال استولى على النصيب الأكبر من المياه.. والخسائر 16 ألف إردب قمح سنويا
«أدندان» الحياة على ذكريات النوبة القديمة..القريتان تفتقران للخدمات الأساسية والأهالى يعيشون على مياه وكهرباء شركات استصلاح الأراضى
"قسطل - حلفا" بوابة مصر لأفريقيا.. ميناء تعطله السياسة..المعبر يرفع حجم التبادل التجارى بين مصر والسودان لـ8 ملايين جنيه ويوفر 500 فرصة عمل لشباب النوبة
"وادى النقرة" فى قبضة «الإقطاعيين» من رموز نظام مبارك