طبيب روسى يكشف سر إصابة عبد الناصر بالأنفلونزا.. كتاب "الصحة والسلطة" يرصد مراحل إصابة الزعيم حتى الوفاة.. وسكرتير عام الحزب الشيوعى السوفيتى أبلغ الطبيب بإصابة المريض بورم له علاقة بالجهاز البولى

الإثنين، 24 مارس 2014 02:51 م
طبيب روسى يكشف سر إصابة عبد الناصر بالأنفلونزا.. كتاب "الصحة والسلطة" يرصد مراحل إصابة الزعيم حتى الوفاة.. وسكرتير عام الحزب الشيوعى السوفيتى أبلغ الطبيب بإصابة المريض بورم له علاقة بالجهاز البولى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر
كتب مؤمن مختار

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هناك العديد من الأسئلة التى مازالت مثارة حول مرض الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهل كان من الممكن إنقاذه من هذا المرض أم لا، وهل صحيح أنه كان مصابا بـ"أنفلونزا"، ولكننا نعلم جيداً أن حياة عبد الناصر كانت تشكل أهمية كبيرة بالنسبة للعرب والمصريين، وكانت عيون إسرائيل تراقب باهتمام كل تفاصيل عبد الناصر، ولذلك كان من المهم أن يبقى مرض عبد الناصر سراً، حفاظاً على القومية العربية والتضامن العربى فى مواجهة تل أبيب، وإعداد جيش مصرى يعيد أرض سيناء من جديد والقدس المحتلة.

نعلم جيداً أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان يعتمد اعتمادا كبيرا على الخبراء السوفيت أثناء حرب الاستنزاف، وكان يستورد الأسلحة الروسية من الاتحاد السوفيتى، ولكنه لم يعتمد على الخبراء أو الأسلحة أو الجنود للحرب فقط، ولكنه اعتمد أيضاً على الأطباء الروس، ومن بين هؤلاء الأطباء طبيب يدعى "يفجينى شازوف"، والذى قام الاتحاد السوفيتى بإرساله سرا إلى مصر لمعالجة عبد الناصر.

ولد يفجينى شازوف فى 10 يونيو عام 1929 فى مدينة نيجنى نوفجوراد الروسية وهو طبيب وعالم أكاديمى وفى بداية عام 1967 اختاره "ليونيد بريجينيف" السكرتير العام للحزب الشيوعى السوفيتى لرئاسة الإدارة الرابعة بوزارة الصحة، وهى الإدارة الخاصة برعاية صحة كبار الزعماء وكبار رجال الدولة، وكانت له خبرة واسعة فى علاج أمراض الذبحة الصدرية وموت أجزاء من عضلات القلب وتجلط الدم فى الشرايين وهذا ما جعله مشهوراً فى العالم كله.

وقام البروفيسور "شازوف" بكتابه الأسرار التى تعرض لها فى حياته، وكانت تعتمد عليه المخابرات الروسية "الكى جى بى" اعتمادا كبيرا فى علاج كبار الزعماء، ومن بين هؤلاء "جمال عبد الناصر" وعدد من الدول الأخرى، ونشر هذه الأسرار فى كتاب أطلق عليه اسم "الصحة والسلطة"، وكشف فى هذا الكتاب عن الكثير من الأسرار ومعالجته للعديد من رؤساء الدول، ولكن الأهم فى هذا الكتاب بالنسبة لنا كمصريين هل كان من الممكن إنقاذ عبد ناصر من مرضه أم لا؟.

كشف شازوف فى كتابه عن أسرار الرحلات التى كانت بين موسكو والقاهرة، وكيف توقف جمال عبد الناصر عن التدخين، وأن القاهرة أخفت مرضه وأعلنت إصابته بالأنفلونزا.

وقال شازوف، فى مذكراته السرية، إنه فى الأيام الأولى من يوليو 1968 اتصل به ليونيد بريجينيف، السكرتير العام للحزب الشيوعى السوفيتى، وعلى الرغم من أن بريجينيف لم يتحدث صراحة حول الموضوع، ولم يكشف عن اسم المريض، لكن شازوف فهم أن المريض واحد من الأصدقاء والأعزاء، وأن الموضوع سرى للغاية، وأن الأطباء المسئولين عن الحالة المريضة يريدون مقابلته للحديث معه حول حالته.

تحدث بريجينيف مع شازوف عن إصابة المريض بورم له علاقة بالجهاز البولى، ولكن من الغريب كيف عرف بريجينيف هذه المعلومات، لكن المفاجأة أن الزعيم السوفيتى السابق دعا شازوف لدعوة المختصين والأطباء ولكن يجب أن يكونوا محل ثقة حتى لا يتسرب أى نبأ حول هذا الموضوع، كما طلب منه عدم التحدث مع أى قائد عن نتائج الاستشارة الطبية، وفى اليوم التالى حضر إلى مكتب شازوف عدد من الأطباء المصريين فى شارع جرانوفسكى، واجتمع بهم الأطباء السوفيت، وعلى رأسهم الجراح الكبير "مايات" وأخصائى المسالك البولية "إبراميان"، وقال الأطباء المصريون، إن الحالة المريضة هى الزعيم المصرى "جمال عبد الناصر"، وفى الفترة الأخيرة بدأ يشكو من آلام قوية فى قدميه، وبدأت هذه المشاكل منذ أن بدأ الرئيس المشى على قدميه لمسافات طويلة، وتكررت المشاكل فيما بعد المشى لمسافات قصيرة، وبعد فترة تألم بون أن يتحرك وتركيز الآلام انتقل من القدمين إلى الفخذين، كما يعانى عبد الناصر من إحساسه بتخدير فى قدميه، وجلد قدمه بدأ يتغير، مما يؤكد أنه غير سليم، وكان عبد الناصر يعانى من نقص فى السكريات والدهون نتيجة أنه يقوم بتدخين سجائر مركزة.

وقال شازوف، إنه نتيجة لما عرضه علينا الأطباء المصريون من تحاليل وأشعة وفحوصات، أثبتنا أن عبد الناصر لا يعانى من أى أورام، وأن المريض يعانى من تصلب فى الأوعية الدموية فى الساقين والدورة الدموية، وأنه لا يمكن الوصول لتشخيص نهائى للحالة إلا بعد أن نقوم بفحصها بأنفسنا، لكن المصريين كانوا يخشون تسرب أى خبر حول هذا الموضوع، لأن الموقف فى الشرق الأوسط صعب، وتسرب أى خبر حول مرضه قد يضعف مواجهة العرب لإسرائيل، لأن عبد الناصر كان زعيماً ومناضلاً للأمة العربية فى مواجهة إسرائيل، وطلب المصريون من الروس البحث مع ناصر نفسه، هل من الممكن أن يقوموا بفحصه أم لا، وكان عبد الناصر على ثقة بأن السوفيت لن يقوموا بفضح الأمر وسيبقوه سراً.

وفى يوم 6 يوليو 1968 كان أول لقاء مع الرئيس المصرى والأطباء الروس، وكان التعب والمرض والقلق يسيطر على وجه عبد الناصر، وكان بجانبه "أنور السادات"، وعلى الرغم من الإرهاق الذى بدا عليه، إلا أن عبد الناصر استطاع فى ربع ساعة أن يصنع جواً ودياً وجميلاً، وقال شازوف، إن عبد الناصر كان إنسانا مثقفا ومتواضعا، وعندما قام الأطباء بسؤاله، مما تشكو؟، قال عبد الناصر، أشكو من عذاب شديد فى الساقين والفخذين، وطوال رحلتى إلى موسكو، التى استمرت 5 ساعات، اضطررت إلى النوم على ظهرى فى الطائرة، على الرغم من عقد اجتماعات مع كبار المساعدين.

وأشار شازوف إلى أن عبد الناصر كان يخفى آلامه المبرحة عن كبار الأطباء المصريين، وعلى الرغم من أنه لم يكن يقوى على المشى وكان يتحمل ما به وكان يبتسم ابتسامة مشرقة عندما كان يزور أحد مواقعه العسكرية، حتى لا يكتشف الشعب المصرى أنه مريض، واصطحب عبد الناصر خلال فترة علاجه فى موسكو الزعيم الفلسطينى الراحل "ياسر عرفات"، تحت اسم مستعار وهو"أمين"، وقال إنه المستشار الفنى لعبد الناصر، ولكن كان هدف زيارة عرفات إلى موسكو هو التعرف على القيادة السوفيتية.

وبعد 6 يوليو التقى شازوف بعبد الناصر مرات عدة، وقال إنه منذ اللقاء الأول مع الزعيم المصرى رأيت فيه قوة كبيرة فـ"لا يصنع الرجال الضعفاء الثورات"، وعندما بدأ شازوف بعلاج ناصر طلب منه الإقلاع عن التدخين، وعلى الفور طلب ناصر من أحد معاونيه أن يأخذ علبة السجائر التى كانت على الطاولة وتسمى "الجمل" وقال لمعاونه، "من اليوم لن أدخن"، وأدار وجهه لشازوف وقال، "لو كان هذا الأمر يتعلق بى شخصياً لجادلتك، لكنه يتعلق بمصير مصر".. وبالفعل امتنع عبد الناصر عن التدخين، ويضيف شازوف، "وقررنا بعد فحص عبد الناصر كاملا أن يكون العلاج بحمامات المياه المعدنية والطينية "العلاج الطبيعى"، وبعد أن أثبتت الفحوص أن عبد الناصر يعانى من "تصلب شرايين الساقين" توصلنا إلى أن العلاج الجراحى لن يفيد، خاصة أن جراحات الأوعية الدموية لمعالجة أمراض تصلب الشرايين كانت فى أوائل عهدها، بالإضافة إلى أن حالة عبد الناصر لم تكن تتحمل هذا النوع من العلاج، لذلك تم الاقتراح بأن يكون العلاج فى ينابيع "تسخالطويو" الموجودة فى جمهورية جورجيا السوفيتية، وهذه المنطقة كانت مشهورة بمعالجة الأمراض مثل التى يعانى منها عبد الناصر".

ويضيف شازوف، "وافق عبد الناصر مبدئيا على الاقتراح، لكنه قرر أن يعطى نفسه إجازة بعد أن يبحث الموضوع مع القيادة المصرية ومجلس الأمن القومى المصرى، وكان عبد الناصر يستخدم لفظ "إجازة" بدلا من المرض أو العلاج، ووعد السوفيت بالعودة إلى أقرب وقت إلى موسكو للذهاب إلى "تسخالطويو" لتلقى العلاج، ويشير الطبيب الروسى إلى أنه قام بإبلاغ بريجينيف بنتائج الفحص الطبى وما توصلوا إليه بشأن حالة عبد الناصر، وقال بريجينيف، "افعلوا ما بوسعكم كى يسترد عبد الناصر عافيته مرة أخرى، فلا يوجد فى الشرق الأوسط زعيم آخر يمكنه أن يوحد العرب فى مواجهة إسرائيل وأمريكا، ولو اختفى عبد الناصر سنلتقى ضربة قاضية تضر بمصلحتنا ومصلحة العرب.. افعلوا كل شىء لازم لعلاجه وسيوجه مجلس السوفيت الأعلى دعوة لعبد الناصر للاستجمام والراحة فى بلادنا وسنبلغ "نيكولاى بودجورنى" أحد أعضاء القيادة الجماعية الثلاثية للبلاد".

ويشر الطبيب الروسى إلى أنه عقب ذلك تلقى اتصالا من بودجورنى وكان يحدثه بلهجة جافة، وقال له "اتصل بى بريجينيف وطلب منى مساعدتك فى موضوع جمال عبد الناصر، اتصل أنت برجالى وسيهتمون بالموضوع"، ويلفت شازوف إلى أنه سافر إلى جورجيا ليتفقد مكان إقامة عبد الناصر، ولكن كانت المفاجأة أن رئيس قسم التصوير الفوتوجرافى والسينمائى بمجلس السوفييت الأعلى "دانيلوف" كان المسئول عن تنظيم استقبال عبد الناصر، وكانت المساعدة التى تقدم بها "دانيلوف" هى توقيع ميزانية استضافة، ولكن المفاجأة الأكبر أنه فى "تسخالطويو" لم يكن هناك أى مقر يليق بإقامة زعيم كبير مثل عبد الناصر، وكانت كل الأماكن ريفية وقذرة ولا يعتنى بها أحد وكانت الغرف الريفية ضيقة تنحصر بين 12 إلى 14 متراً، ولا تتوفر فيها أى وسائل للراحة، لكن قام "مجافاندزا" السكرتير الأول للحزب الشيوعى فى جورجيا فى ذلك الوقت ببذل مجهود كبير، وقام بإعداد مبنى حكومى لاستقبال ناصر.. وقبل مجىء عبد الناصر قام موظفو مكتب الرئيس بزيارة المكان ليتفقدوه ولكنهم وجدوا غرفا صغيرة مساحتها 14 مترا فسألوا الروس "ألا يوجد مكان أكثر اتساعا من هذا؟" فقال شازوف، "هذا أفضل ما عندنا ولا يوجد مكان آخر" فقالوا، "ألا ترون أنكم تستقبلون زعيما لدولة أجنبية؟"، وكان شازوف بداخله مقتنعا بأسباب تذمر المصريين، ولكنه كان عاجزا تمام عن تغيير هذا الوضع، كما قال فى كتابه.

ويوضح الطبيب الروسى فى كتابه "الصحة والسلطة"، "تأخر عبد الناصر شهرين عن الموعد المحدد له للقيام بجلسة علاجه فى "تسخالطويو"، لكن هذا لم يكن له صلة بما نقل إليه من أخبار حول الظروف غير اللائقة بالمكان الذى سنستقبله فيه، لكن كان هذا نتيجة انشغاله بإدارة عمليات دعم دفاعات مصر أمام غارات الطائرات الإسرائيلية، وقرر عبد الناصر اصطحاب عدد محدود من معاونيه، وكان بصحبته السفير المصرى فى موسكو الدكتور "مراد غالب" وهو طبيب يتسم بالذكاء، وكان على فهم بحالة عبد الناصر الصحية، وكان من المفترض أن رجال المخابرات الروسية قاموا بما فى وسعهم لتأمين سرية زيارة عبد الناصر، لكن قبل ساعات من الذهاب إلى "تسخالطويو" ذهب شازوف إلى السوق لكى يقوم بتلميع حذائه لمقابلة عبد الناصر، وكان ماسح الأحذية رجلا عجوزا، قال لشازوف بصوت خافت، "أنت تبدو رجلا طيبا، ولذلك سأقول لك سرا تستطيع الوقوف على ناصية الميدان وفى الساعة 12 سترى عبد الناصر"، والغريب أن الرجل وصف بدقة خط سير عبد الناصر.

استطاع عبد الناصر، كما يقول يفجينى شازوف، أن يزيل التوتر الذى نشأ عندما رأى مكان إقامته فى "تسخالطويو" ونقل مترجم عبد الناصر "سلطانوف" كلماته التى قالها للأطباء الروس "لا تتحدثوا فى هذا الموضوع، فالمكان هنا يروق لى ولا تنسوا أننا ضيوف وجئت إلى هنا لألتمس الشفاء"، ولكن حمام السباحة الرخامى الذى ترجع أيامه إلى "ستالين" زعيم الاتحاد السوفييتى السابق، والذى لا تزال مياه الطبيعية تتدفق فيه كافيا بأن يخفف عن عبد الناصر وباقى الضيوف عن تواضع الضيافة، وأبدى عبد الناصر إعجابه بطرق العلاج الطبيعية وتعامل مع معالجيه ببساطة، وكان من حين لآخر يخرج للتنزه فى الحدائق المجاورة معنا، وبالتدريج بدأت أعراض الآلام تختفى من قدمين عبد الناصر واختفى الأرق الذى كان يمنعه من النوم"، وقال "شازوف"، الحقيقة لم أكن أثق بطرق العلاج هذه، وكان عبد الناصر نفسه مندهشا من السرعة التى أنقذناه بها من المرض الذى كان ميئوسا من شفائه، وأصبح بين الرئيس المصرى والأطباء السوفيت علاقات وطيدة، خصوصا الدكتور "تيولبين" الذى تخصص فى الإشراف على علاجه، وكان عبد الناصر لا يخرج من مقر إقامته إلا لتلقى العلاج أو التنزه فى الحدائق المجاورة، وانتهت فترة علاج عبد الناصر وكان مستعدا للسفر إلى مصر، وقبل سفره نصحناه بأن يلتزم بنظامه الغذائى الخاص الذى تم وضعه، وأن يبتعد عن الإجهاد والانفعالات والنشاط والتحسن الذى ظهر على عبد الناصر نتيجته نمو أوعية جديدة إلى جوار الأوعية القديمة مما وفر دورة دموية طبيعية للساقين، وذلك بفضل العلاج الطبيعى وقدرات الطب فى هذه الفترة لم تكن تتحمل التوصل إلى إيقاف تصلب الشرايين، خصوصا أن عبد الناصر كان يعانى من مرض السكر.

واستمع بالفعل عبد الناصر إلى هذه النصائح وابتسم وقال، "من الصعب أن تكون رئيسا لمصر وتسمع وتنفذ هذه النصائح"، وتم الاتفاق على زيارة عبد الناصر بعد ثلاثة أو أربعة أشهر لتقييم نتائج العلاج على المدى الطويل ومتابعة حالته الصحية وتقديم نصائح جديدة لمتابعة العلاج، وتم الاقتراح على عبد الناصر أن يرافقه أحد الأطباء السوفيت وتم ترشيح الدكتور "تيولبين" لمتابعة حالته فى الفترة بين عودته للقاهرة وانقضاء الأشهر الأربعة لمتابعة حالته، لكن عبد الناصر خاف ان يقال انه لا يثق فى الأطباء المصريين وأضاف أنه يثق بالأطباء المصريين مع تقديره لمعالجة السوفيت له، وقال "الشعب المصرى لن يفهم ذلك"، فى إشارة إلى مرافقة طبيب سوفيتى معه وودع عبد الناصر الأطباء السوفيت وبعث رسالة شكر إلى بريجينيف بعد عودته للقاهرة وبعد شهور قام الأطباء بزيارة عبد الناصر وكان نشيطا للغاية يلعب التنس ويعمل كثيرا ويمشى كثيرا وكان فى صحة جيدة وكان مشغولا باستعادة قدرة مصر الدفاعية وتوطيد التعاون العربى، وعندما عاد الأطباء من القاهرة كانوا راضين تماما عن وضع عبد الناصر، لكن المستقبل كان يخفى الكثير.

فى شهر سبتمبر عام 1969 توجه شازوف إلى نهر "الفولجا" بسيارته، حيث تم إقامة واحد من أفضل منتجعات الاستشفاء الحديثة المزودة بأجهزة طبية متميزة، وحين كان يستجم على شاطئ النهر ويأكل السمك أخبره أحد المسئولين بأن موسكو اتصلت به وتطلب منه أن يكون فى مكتبه غدا باكرا، حيث إنه سيتلقى تليفونا مهما، وبعد أن قطع شازوف 1000 كيلومترا للذهاب إلى مكتبه تلقى تليفونا من "يورى اندروبوف" المسئول عن جهاز المخابرات فى الـ"كى جى بى" وأبلغه أن وصلته رسالة عاجلة من القاهرة تطلب من الزعيم السوفيتى "بريجينيف" أن يبعث به إلى الرئيس المصرى جمال عبد الناصر، ولم يذكر أندربوف أى تفاصيل أخرى، حيث اقتصرت الرسالة على هذا فقط للحفاظ على سرية الموضوع وقال أندروبوف، "إن إعداد طائرة خاصة لسفرك إلى القاهرة سيستغرق وقتا طويلا، كما أنه سيلفت هذا انتباه موظفى الطيران المدنى بالقاهرة والعاملين فى شركة "أيرفلوت" السوفيتية، خاصة أن الموساد له أعين مفتوحة على القاهرة، لذلك أقترح ذهابك على متن رحلة عادية تنطلق بعد ثلاثة ساعات وستكون فى الدرجة الأولى ولن يثير حضورك الاهتمام فى القاهرة، حيث إنه لا يعرفك أحد وسيتولى رفاقنا صعودك على متن الطائرة فى موسكو، ولن يكون فى الدرجة الأولى سوى أحد المستشارين العسكريين ولا يعرف هويتك.. وفى القاهرة ستجد رجالنا يأخذونك من باب خاص بالاتفاق مع المصريين وعند خروجك إلى القاهرة احرص على ارتداء نضارة سوداء وقبعة، حتى لا يتعرف عليك أحد أو تصويرك من شرفة مبنى الطائرة".

وقال شازوف، "إن ما قاله عميل الكى جى بى يشبه قصص جيمس بوند، وعلى الرغم من أننى لا أجيد التمثيل فعلت كل ما هو مطلوب منى، وعندما نزلت من سلم الطائرة إلى أرض المطار أحاطنى مجموعة من الرجال، وفى ثوان كنت أجلس داخل سيارة انطلقت بى فى شوارع القاهرة حتى فندق شبرد على النيل، ونقلونى إلى الطابق الأخير الذى أغلقه عدد من الحراس وخصص لإقامتى وطلبوا منى أن أبقى مكانى ولا أغادر إلا بصحبة السكرتير الرئاسى، وبعد عشرين دقيقة حضر بالفعل سكرتير عبد الناصر وذهبت معه إلى بيته فى مصر الجديدة".

ويضيف شازوف، فى وثائقه السرية، أنه على الرغم من النصائح التى قدمها الأطباء الروس لعبد الناصر لم يلتزم بها، ففى بداية شهر سبتمبر حضر عبد الناصر مؤتمراً لزعماء العرب وشعر أثناءه بتعب شديد، وشعر عبد الناصر فى اليوم العاشر من الشهر، وللمرة الأولى بألم فى صدره، وأوضح رسم القلب الذى قام به المصريون أن عبد الناصر أصيب بذبحة صدرية واحتشاء بعضلة القلب، فأخبروا أصدقاءه وأقاربه وعقد اجتماعا طارئا لمناقشة الحالة الصحية لعبد الناصر فى اجتماع بمنزله حضره أنور السادات وشعراوى جمعة والفريق محمد فوزى، وحذر الأطباء المصريون من خطورة حالة عبد الناصر واقترحوا انضمام أطباء أجانب إلى جانبهم لمساعدتهم، لكن خشى القادة أن يؤدى انضمام الأطباء الأجانب إلى تفشى سر اعتلال صحة الرئيس، وإذا تفشى هذا الخبر سيكون "هدية للإسرائيليين" يستطيعون من خلاله بث الشائعات بين العرب، ويشككون فى قدراته لقيادة مصر والعالم العربى فى مواجهتهم، لكن أنور السادات ومحمد حسنين هيكل وجدا أن استدعاء البروفيسور شازوف الحل الوحيد للانضمام إلى الأطباء المصريين، لأنه محل ثقة، وأكمل شازوف أن الزعيم المصرى عبد الناصر كان يقيم فى منزل متواضع مكون من طابقين استقبلتنى فيه زوجته المحترمة والوقورة والصامتة دائما، ولم يترك أطباءه يتحدثون لأنه واثق تماما أن مرض تصلب الشرايين وصل إلى شرايين القلب وأدى إلى وصول "احتشاء القلب" وإصابة أجزاء منه، ولحسن الحظ أن التطور الخطير لصحة عبد الناصر مر عليه يوم أو يومان وكان من السهل اكتشاف مرض عبد الناصر ومعانته من احتشاء القلب متوسط الخطورة دون أى مضاعفات أخرى، وكان يجب عليه أن يتناول الأدوية التى تعمل على توسيع مجرى الأوعية الدموية، فضلا عن أدوية مضادة للتجلط، وطلب منى أطباؤه وزوجته أن أقنعه بأن يستريح لمدة شهر على الأقل.

صعدنا إلى الطابق الثانى لغرفة نوم عبد الناصر المتواضعة كما وصفها تشازوف وكان جسده ممد على الفراش، وفور أن رأى تشازوف اعتذر منه عن الرحلة العاجلة والمفاجئة التى جاءت به إلى القاهرة، وقال عبد الناصر، "هل ترى أى مريض اخترت؟"، فأجاب شازوف عبد الناصر عندما سأله عن حالته الصحية وتطورها قائلا، "يلزمنا أولا عشرة أيام على الأقل قبل أن يصبح كل شىء واضحا"، فرد عليه عبد الناصر قائلا، "لا تفكر أننى لا أثق بأحد أو أشك فى نصائحك، ولكن الوضع شديد الخطورة لدينا نحن نحاول بقدر استطاعتنا الوقوف على أقدامنا، والآن فقط بدأنا بدعم دفاعاتنا وقدراتنا وإنشاء جيش مصرى حديث، وفى هذه الظروف اختفائى عن الأضواء أو عدم المشاركة سيضعف جهودنا، وهذا قدرى وإسرائيل تراقب بعيونها كل تفاصيل حياتى وحتى حالتى الصحية لذلك أخفينا نبأ مجيئك إلى القاهرة.

وفجأة سأل عبد الناصر شازوف، "ما الذى تقترحه لتغطية سر اختفائى عن الأضواء لتضليل الجواسيس وطمأنة الشعب؟" اقترح شازوف على عبد الناصر أن يقول إنه أصيب بـ"أنفلونزا وزكام حاد"، لذلك من المفترض أن يلتزم الفراش لمدة أسبوعين ويمكن من خلال ذلك يظهر عبد الناصر للحظات بصحبة الشخصيات العامة أمام وسائل الإعلام بأى مبرر، وكان هذا الاقتراح من وحى شازوف الذى انتشر فى القاهرة وأوضح شازوف أن تعدد الأسباب والمبررات لإخفاء مرض زعيم سياسى ليس بجديد، فقد حدث هذا مع الزعماء السوفيت، مثل بريجينيف وأندروبوف وتشيرننكو وغيرهم، ولكن حالة عبد الناصر كان لها شكل خاص لأن الزعيم وبلاده فى موقف صعب وهناك ضغوط كثيرة لإخراج مصر من هذا المأزق من أجل استفلالها وحريتها، ولذلك يجعل العمل السياسى الإنسان يخفى حقيقة مرضه وعجزه وشعوره، وذلمك لكونه ليس مجرد إنسانا عاديا.

وانتهى لقاء شازوف الأول مع عبد الناصر بالاتفاق على أن يبقى فى القاهرة لمدة 10 أيام، وهى أصعب فترة يمر بها مريض القلب عند إصابته بالذبحة الصدرية ويزوره مساء عندما يخيم الظلام، وعندما انتهى شازوف مع عبد الناصر نزل إلى الطابق الأول فكان ينتظره السادات وشكره محمد أنور السادات بسبب موافقته على البقاء فى القاهرة لمدة 10 أيام لمتابعة الحالة الصحية لعبد الناصر.

وكان شازوف يذهب إلى منزل عبد الناصر كل مساء عندما يخيم الظلام، وفى الزيارة الثانية بدأت صحة عبد الناصر تتحسن وبدأ يتحدث هووشازوف عن أشياء أخرى بعيدة عن المرض ولكن شازوف كان صغيرا ومعلوماته تقتصر عن الطب، ولم يكن يعرف كثيرا عن السياسة، ولم يفهم ما يقوله عبد الناصر، ولكن فى النهاية تسلم شازوف من ناصر رسالة طلب منه أن يسلمها إلى بريجينيف، واعتبر عبد الناصر شازوف شخصا يثق به وليس مجرد طبيب يعالجه، وعندما تسلم شازوف رسالة عبد الناصر تذكر لماذا ابدى عبد الناصر تذمره من شحنات الاسلحة القديمة التى ترسلها موسكو وأنه بحاجة إلى صواريخ سام 2 و3 المضادة للطائرات وطائرات "ميج 25" لحماية سيناء، كما أنه كان يريد إرسال عدد كبير من العسكريين المصريين إلى الاتحاد السوفيتى لتدريبهم، وتحدث عبد الناصر عن قدرة إسرائيل الهجومية، وأنها تستطيع مهاجمة مصر وأنه عاجز عن حماية الإسكندرية.

وبعد انتهاء العشرة أيام عاد شازوف إلى موسكو وهو حزين لأنه يعلم جيدا أن عبد الناصر لن يستمع إلى نصائحه لأن أمامه عملا كبيرا لإعادة قوة وبناء مصر من جديد، وهذا ما حدث بالفعل فلم يمض أسبوع على مغادرته الفراش وانخرط فى العديد من الأعمال ونسى أنه مريض، وكان عبد الناصر أحد الأبطال ذى الإرادات القوية الذى يأخذ القرارات بإرادته حتى لو كان فى غير صالحه أو حياته، وقبل رحيل عبد الناصر حصل شازوف على وسام لينين أعلى وسام فى موسكو لأنه حقق الكثير من الإنجازات فى سبيل تطور العلوم الطبية والصحة، وحينها قابل رئيس المخابرات السوفيتية الكى جى بى أندروبوف، وقال له، "ما فعلته من أجل عبد الناصر هو من أجل بلادنا، فصحة عبد الناصر تمثل لنا رأس مال سياسى كبير"، ولكن شازوف من داخله كطبيب لم ينظر إلى مريض كرأس مال وإنما هو إنسان قبل أن يكون مريضا.

التقى شازوف عبد الناصر فى موسكو فى بداية عام 1970، عندما كان فى زيارة لإعادة تسليح الجيش المصرى ومناقشة مبادرة روجرز، ولكن صحته كانت متدورة للغاية ولم يتصور شازوف ذلك، وكان تصله أخبار عن عبد الناصر وعن انشغاله فى الأعمال وتدهور حالته الصحية، ولكنه لم يتصور أنها ساءت إلى هذا الحد وخاصة بعد زيارته التى قام بها إلى ليبيا لمقابلة أخيه "الشقى" القذافى، هكذا كان يسميه عبد الناصر عندما يتحدث مع شازوف وخلال هذه الزيارة كان عبد الناصر يركب سيارته لمدة خمس ساعات متواصلة دون ان يلتقط انفاسه ويلقى خطابات للجماهير الليبية تستغرق ساعة، وهكذا دون أى راحة وعندما علم شازوف بهذا طلب من بريجينيف أن يرسل لعبد الناصر برقية يذكره فيها بما نصحه، وبالفعل أرسل بريجينيف الرسالة، وهذا يدل على أن الزعماء السوفييت لديهم اهتمام كبير بصحة عبد الناصر، وعندما جاء عبد الناصر إلى موسكو اجتمع به شازوف وأخبره ناصر أن حالته الصحية صعبة ومزاجه سىء للغاية، وفى مدينة "بارفيج" أخد عبد الناصر قسطا من الراحة والعلاج، وذلك لتتحسن حالته الصحية، وكان المكان جميلا وسمح لعبد الناصر أن يعقد اجتماع مع معاونيه الذين كانوا فى المدينة فى هذه الفترة وفى إحدى الليالى طلب عبد الناصر أن يتم عرض فيلم "التحرير" السوفيتى المشهور الذى يصور معارك دبابات "كورسك" فى الحرب العالمية الثانية وبعد انتهاء الفيلم نظر عبد الناصر لأحد معاونيه وقال، "هكذا يكون القتال، وهكذا تحارب الدبابات"، ولم يكن شازوف يفهم عبارات عبد الناصر ولكنه فهمها بعد ثلاث سنوات عام 1973 عندما دارت معركة طاحنة فى سيناء انتصر فيها الجيش المصرى بدباباته ومدرعاته على الجيش الإسرائيلى.

وعد عبد الناصر شازوف قبل رحيله من مدينة "بارفيج" أن يلتزم بالنصائح الطبية، ولكنه لم يفِ بوعده وعندما عاد إلى القاهرة انغمر فى عمله الشاق، وكان شازوف يعلم أن المأساة قد تحدث فى أى يوم من الأيام، ففى بداية سبتمبر عام 1970 بدأ الصراع بين الملك حسين عاهل الأردن والمقاومة الفلسطينية وهذا قد يؤدى إلى تهديد التضامن العربى، وبذل عبد الناصر مجهودا عصيبا وبدنيا فى سبيل حل الأزمة وعدم تهديد هذا التضامن، وبالفعل حل السلام بين الطرفين المتنازعين وتم إنقاذ الموقف، ولكن أصيب عبد الناصر بنوبة احتشاء فى عضلة القلب للمرة الثانية، وكانت المفاجأة أن عبد الناصر توفى فى 28 سبتمبر عام 1970، وكان هذا يشكل صدمة ومفاجأة للجميع، وبعد وفاة عبد الناصر ورئاسة السادات دعا محمد أنور السادات شازوف إلى منزله فى الجيزة، حيث كان منزلا فخما وكبيرا واستقبله السادات بعصا وطربوش وجلباب، ولم يتوقع شازوف أن يكون هذا السادات، فعندما رآه أول مرة عام 1969 فى القاهرة كان يرتدى زيا عسكريا، عندما طلب منه عبد الناصر وعلى صبرى أن يأخذا شازوف للعشاء، وكانت دعوة عبد الناصر لشازوف هدفها معرفة ما هى تفاصيل مرض عبد الناصر وكان يجلس معه على صبرى، ولكن شازوف أصر على أن هذه أسرار لا يجب أن يعرفها حتى أقرب الناس إلى عبد الناصر، وعلى صبرى وأنور السادات كانا متواجدين فى ذات مرة مع عبد الناصر حينها قال ناصر لشازوف، "ترددت أنباء وشائعات حول انقسام القيادة المصرية، وأنت الآن ترى بنفسك كيف يعيش الإخوان معا، فقل لزعمائك فى موسكو إن القيادة المصرية قوية وإننا غير مترددين بغض النظر عن حركة الأحداث السياسية".

هكذا مات عبد الناصر، وهو زعيم مصرى وعربى كبير لا يعرف المستحيل، وقام بمقاومة مرضه العصيب من أجل الأمة العربية ومحاربة إسرائيل العدو الأول لمصر، ويعترف الجميع بأن عبد الناصر زعيم مصرى أصيل وعربى كبير لن يكرره التاريخ مرة أخرى، وأنه فعل الكثير من أجل الشعب المصرى، ولم يهتم بحياته أو مصالحه الشخصية على الرغم من مرضه الذى أودى بحياته وكان من الممكن إنقاذ حياة عبد الناصر، والدليل على هذا أن العلاج الطبيعى قام بشفائه وتحسين حالته الصحية، إلا أن الإجهاد والتعب تسببا فى إصابة قلبه، ولكن كل هذا من أجل الشعب المصرى والأمة العربية والانتصار الذى تم تحقيقه فى وجهة العدو الإسرائيلى عام 1937.








مشاركة




التعليقات 1

عدد الردود 0

بواسطة:

mahnoud

مصر والاقدار

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة