ناقشنا فى المقال السابق قضية «تشويش باسم» ووعدنا بالتعرف على «التشويش المرعب» فى هذا المقال، ولم نكن ندرى أن باسم سيقدم لنا نوعا جديدا من التشويش الإعلامى لتغطية ضبطه باختلاس مقال من مجلة أجنبية ونسبته إلى نفسه.
الخطأ بدا بسيطا عند باسم وأنصاره، وبادروا إلى تبريره بالنسيان وضغط العمل، والاكتفاء بالاعتذار، لأن الواقع من حولنا كله مختلس.. السياسى ينتظر إملاءات واشنطن، والإعلامى يحاكى كتاب وصحف وبرامج الغرب، والسينمائى يقتبس بلا أى إشارة للأصل، بالإضافة إلى توكيلات استيراد واستعارة المذاهب النقدية والأدبية وشعارات حقوق الإنسان وموضات الملابس، والأغانى ولهجات الحديث وطرق الحب وفتيات الأحلام.. فقد أصبحنا يا أصدقاء مجتمعا مقتبسا وكأنه صورة مسحوقة للغرب فى مرآة مشوهة.
هل ترون يا أصدقاء أننى أبالغ، وأخذتنى الجلالة على رأى يوسف وهبى فى فيلم «إشاعة حب»، فوجدتها فرصة أدبس باسم فى المسؤولية عن تخلفنا وكل مشاكلنا؟
السؤال محرج، لأنى شخصيا ما أقدرش أقول آه.. ما أقدرش أقول لأ، فالشاعر القديم يقول: «كل الحوادث مبداها من النظر/ ومعظم النار من مستصغر الشرر»، وهو قول لا يبتعد كثيرا عن النظريات الحديثة فى العلم والفلسفة، فمثلا نظرية «تأثير الفراشة» تؤكد أن رفة جناح فراشة قد تكون هى السبب الأساسى لإعصار مدمر، كما أن خبرات وتجار بالتاريخ تقدم لنا أمثلة كثيرة على وقوع كوارث هائلة بسبب ذرائع بسيطة، ولن أعود إلى هروب هيلين مع باريس لنتذكر انهيار مملكة طروادة، ولن أرهبكم بأن الحرب العالمية الأولى اندلعت لأن الطالب الصربى جافريللو اغتال الأرشيدوق فرانز ولى عهد النمسا أثناء زيارته لسراييفو، ولن أستفيض فى قصة المهندس العراقى سعيد الحيدرى الذى اخترع كذبة صغيرة تيسر له الهجرة إلى أمريكا، فدمر بلاده وأغرقها فى الدم، وسلمها للاحتلال.
وحكاية هيلين وفرانز والحيدرى ليست موضوعنا، لكننا نبحث فى كيفية تصنيع واستخدام هذه الظروف لتهيئة رأى عام يبرر لأجا ممنون الاستيلاء على طراودة، ويدفع ألمانيا لمواجهة دول الوفاق الثلاثى ومحاولة فرض إرادتها على أوروبا، ويتيح لأمريكا احتلال العراق.
الإعلام إذن هو مقصدنا، والإعلام الكاذب تحديدا، وأخشى أن أقول إن الإعلام نشأ فى الأصل كاذبا، وأن تكوينه التاريخى يتضمن ثغرات فساد مقصودة للتزييف والتضليل والإلهاء، وإذا لم يكن هناك ضرورة سياسية واقتصادية للكذب، فإنه قد يتسلى أو يخطئ ويقدم بعض الحقائق!
وقبل أن أستعرض معكم قصة إنشاء وزارة الدفاع الأمريكية لمكتب «التضليل الإعلامى» سأتوقف معكم عند هذه المفارقة: تعرفون أن أهم جائزة صحفية وأدبية فى أمريكا اسمها «جائزة بوليتزر» على اسم رائد الصحافة جوزيف بوليتزر، صاحب جريدة نيو يورك وورلد، والذى تبرع عام 1892 بمبلغ ضخم لجامعة كولومبيا من أجل إنشاء أول كلية للصحافة فى العالم، وقوبلت دعوته باستهجان كبير لأن نظرة الناس للصحفيين كانت سلبية فهم «مجرد أناس طفيلين تعساء أيديهم متسخة دائما بالحبر، ليس لديهم أى إبداع أو فكر» وهذا يذكرنى بالمرافعة الهجائية التى قدمها محامى الشيخ عبدالخالق السادات فى دعوى تطليق السيدة صفية السادات من الشيخ على يوسف رئيس تحرير صحيفة «المؤيد» لأنه «يحترف مهنة الجرائد وهى أحقر المهن وعار وشنار عليه»، وحكم الشيخ أبوخطوة بتطليقهما برغم تدخل الخديو لصالح الشيخ على يوسف.
هوووبا.. الخديو واللورد كرومر فى القضية؟!.. المسألة تكشف عن زواج سرى آخر بين الصحافة والسلطة، وهو ما كشفه خبراء الإعلام عن بوليتزر الذى ناضل من أجل فكرته، ونشر عام 1904، مقالاً بعنوان «كلية الصحافة» فى مجلة ذى نورث أمريكان ريفيو، جدد فيه تأكيده أهمية إنشاء كلية لتعليم فنون الصحافة، وجاء فيه «إن الصحافة السكحية الساخرة التى تشكك فى الفضائل البشرية، وتؤوى المرتزقة، والغوغائيين سوف تنتج مع الوقت شعبا خسيسا مثلها»، فقبلت جامعة كولومبيا تبرعه وتم افتتاح الكلية عام 1912.
هل أعجبكم إصرار بوليتزر وحديثه عن الصدق والفضيلة؟
تعالوا إذن نتعرف على أسلوبه الصحفى فى ذلك الوقت حيث كان يرأس تحرير صحيفة «وورلد» التى قامت بحملة كبيرة ضد الإسبان وحملتهم مسؤولية تدمير البارجة «ماين» فى خليج هافانا (عام 1898) وعلى متنها 260 شخصا، ونشرت «وورلد» أن الإسبان زرعوا لغما تحت هيكل السفينة ونددت ببربريتهم و«معسكرات الموت» لديهم بل ووصفتهم بأنهم من أكلة لحوم البشر، وطبعا حظيت هذه الحملة بدعم قوى من رجال الأعمال (خاصة الذين يستثمرون فى كوبا ويريدون التخلص من الإسبان منها).
هل تتذكرون فيلم «المواطن كين» لأورسون ويلز، ومؤامرات تخطيط الحملات الإعلامية، هكذا أشعل بوليتزر نيران الحرب ومعه راندولف هيرست مؤسس صحيفة «نيويورك جورنال»، وسائر الصحف التى دخلت «الهوجة» تحت مانشيتات حماسية تطالب بالثأر: «تذكروا الماين! الموت للإسبان!»، وعندما صار الجو العام فى حالة من الهوس والاستعداد للثأر أعلن الرئيس وليم ماكنلى الحرب فى أبريل عام 1898.
كانت حادثة الماين فى فبراير، وهذا يعنى أن ثلاثة أشهر من التحريض الإعلامى كانت كافية لإقناع الجمهور بدخول حرب يريدها الساسة بمعاونة الزوجة السرية (الإعلام)، حيث كشفت لجنة التحقيق فى تدمير البارجة «ماين» بعد 13 عاما (1911) أن الانفجار كان حادثا غير مدبر فى غرفة المحركات!
هكذا يبدو أن استخدام الإعلام فى التضليل لم يبدأ مع تحرك البنتاجون لإنشاء «مكتب المخططات الخاصة» بعد أحداث 11 سبتمبر بتوصية من بول وولفوويتز الرجل الثانى فى البنتاجون، وإدارة «الصقر المتشدد» أبرام شالسكى، لكن الفكرة قديمة وتكمن فى طبيعة العلاقة السرية المشبوهة بين الإعلام والسلطة.
تمام.. الحل إذن فى خصخصة الإعلام، وتحريره من هيمنة السلطة.
على رأى كابتن لطيف الله يرحمه: الفكرة حلوة لكن التنفيذ مش قد كده، فقد كشفت الكثير من الكتب الأمريكية أن إدارة بوش الصغير كانت تخطط قبل 11 سبتمبر للتلاعب بالرأى العام العالمى من خلال شبكات تضليل معظمها لشركات تسويق إعلامى خاصة ترتبط مع المخابرات المركزية والبنتاجون بعقود سرية، ولعلكم بذلك تفهمون حكاية توصيف سنودن بأنه «متعاقد» أو «متعاون» وليس موظفا فى C.I.A، وطلب رامسفيلد من صديقه مايكل ديفر، خبير «الحرب النفسية» أن يسعى فى هذا الاتجاه، فأكد على ضرورة الربط بين الاستراتيجية العسكرية والتغطية التليفزيونية، لأن «كسب الرأى العام هو كسب الحرب» حسب تعبيره.
وهكذا أسس رامسفيلد ومساعده دوجلاس فيث، دائرة سرية باسم «إدارة التضليل الإعلامى»، وعندما كشفت عنها صحيفة «نيويورك تايمز» وتحولت إلى فضيحة لإدارة بوش، تم الإعلان الوهمى عن إلغائها، وبطريقة إعلان مرسى الدستورى أسسوا بدلا منها «دائرة التأثير الاستراتيجى» وأعلنوا أنها ستمارس التضليل، ولكن خارج أمريكا، ولتخفيف الضغوط على المؤسسات الرسمية بدأت حمى التعاون مع مؤسسات خاصة مثل «راندون جروب» و«ساتشى آند ساتشى»، والتعاقد بأجور كبيرة مع صحفيين محترفين دون الإعلان عن ذلك، ودعم وتأسيس منابر إعلامية فى الأماكن المستهدفة، وهذا يقودنا إلى قصص شيقة عن «راندون جروب» وقناة الجزيرة، والتنظيم الدولى للإخوان. فانتظرونا بعد الفاصل.
الكذب هو وجه من وجوه الحقيقة (سيدنى بولاك)
جمال الجمل يكتب: الإعلام ليس مصابا بفيروس.. إنه الفيروس
الأحد، 23 مارس 2014 06:38 ص
باسم يوسف
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة