قبل الحرب على العراق وبداية حالة الفوضى والدمار التى لحقت بالوطن العربى خلال السنوات الأخيرة، كانت هناك مقدمات توحى بأن ما يحدث هو مخطط غربى طويل الأجل، نحو التوسع شرقا واكتساب حكومات حليفة جدد غير هؤلاء الذين ظلوا عقودا يرفضون السيادة والهيمنة الأمريكية أو حتى يدينون بالولاء المعنوى والمادى والعسكرى للقوة الشرقية المتمثلة فى الاتحاد السوفيتى "سابقا".
ظهر ذلك جليا وواضحا دون أى محاولة للتجميل حين وجهت رئيسة وزراء إنجلترا مارجريت تاتشر حديثا حادا وصريحا لجورج بوش قائله له "إلى متى ستظل مترددا؟ نريد حلفاء فى الشرق أكثر .."، وبعدها بدأ حصار العراق وتم التدخل العسكرى وما تلا ذلك من أحداث مؤسفة يكاد يعرفها الجميع وانتهى الحال بالعراق إلى ما نراه اليوم.
المغزى أن الغرب متمثلا فى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها من الدول الأوروبية، يريدون وبشدة السيطرة على مجريات الأمور فى العالم بأسره، ويحاولون الوصول إلى هذا عن طريق التوسع شرقا ببطء ولكن بفاعلية ونجاح يحسب لهم حتى الآن.
استفاقت روسيا من كابوس انهزامها فى الحرب الباردة على كابوس التوسع الاستراتيجى الذى يتبعه الغرب، فقررت أن تستعيد أمجادها القديمة، فبعد ترتيب وإعادة بناء البيت من الداخل، خرجت روسيا عن صمتها وبدأت تواجه التوسع الشرقى للغرب، بتوسع غربى جاء موجعا ومؤرقا لأمريكا وحلفائها.
فوسط الرفض الشديد للولايات المتحدة الأمريكية ومجلس الأمن، أعلن فلاديمير بوتين أنه قد تم ضم القرم إلى روسيا وأن الاستفتاء الذى تم أوضح بما لا يدع مجالا للشك الرضاء الشعبى عن هذا القرار، وهذه الخطوة التى اتخذها الرئيس الروسى تعتبر توسعا للكتلة الشرقية نحو الغرب، ردا أو تهديدا، رسالة مفادها "فلتتوقفوا عن خطتكم لإعادة رسم خريطة العالم، فلستم الوحيدين القادرين على هذا".
إن ما فعله الغرب من نشر الفوضى وعدم الاستقرار بالشرق كله، بما فى ذلك دول "الربيع" العربى، كان غرضه التفكيك والتفتيت حتى يستطيعون إعادة رسم خريطة العالم من جديد بما يخدم مصالحهم، ولكن حدث ما لم يتوقعوه، حدثت ثورة 30 يونيو، حدث ضم روسيا لجمهورية القرم، و كلها كانت خطوات أوقفت وأربكت حساباتهم وجعلتهم يعلمون أن مخططهم قد انكشف وأن الشرق قادة وشعوبا قد انتفضوا لمواجهة هذا المخطط الغربى الفوضوى.
منذ إن بدأت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتى سابقا والولايات المتحدة الأمريكية فى بداية الخمسينيات، كانت حربا بين فكرتين، الشيوعية و الرأسمالية، وانتصرت الرأسمالية، ولكن، روسيا لم تعد شيوعية بل غزا الفكر الرأسمالى الشرق كله وبشدة، فالشرق عامة يتميز بأنه متطرف، حتى فى الأفكار الجيدة، إذ لا يلبث أن يمسك ببداية الخيط، حتى ينطلق دون أن توقفه أى قوة، ولذا ابتلع الشرق فكرة الرأسمالية، ولم تعد فكرة الحرب الباردة القديمة ذات معنى.
ولذا بدأ الغرب منذ سنوات فى تغيير أماكن اللعب إلى دول الوطن العربى، حتى يثبت لنفسه ولحلفائه أنهم يسيرون بخطى ناجحة، فكانت العراق وأفغانستان والتلاعب بالثورات العربية، ولكنهم لم يدركوا أن روسيا تختلف، فروسيا قوة عظمى لا يجب التقليل من شأنها ولا يجب التعامل معها باستهانة.
وقد نرى قريبا انضمام قوة عظمى أخرى وهى الصين إلى هذا التحالف الشرقى، وخاصة بعدما رأينا موقف الصين من الامتناع على التصويت بشأن ضم القرم إلى روسيا وهو ما يعكس موقفا قد يبدو حتى اللحظة محايدا ولكنه أيضا، غير رافض، وينتظر لحظة الإعلان عن الانضمام لهذه الكتلة الشرقية التى تواجه المخطط الغربى الفوضوى للتوسع شرقا.
لقد انتفضت مصر وعدد من الدول العربية، وانتفضت روسيا، وأعلنوا أنهم قادرون على صد التلاعب الغربى غير المقبول فى شئون الشرق بأسره، وأن الحساب قادم لا محالة، داخليا ضد كل من سولت له نفسه الخيانة والعمل لصالح الغرب لتنفيذ خطة التمكين كما حدث فى مصر فى 30 يونيه، وخارجيا كما فعلت روسيا بضم القرم ودفعت الغرب على التقهقر إلى الوراء.
إن الأحداث قد توحى بوجود خطر عالمى وشيك، وبالتأكيد لن يكون حربا باردة جديدة، ويظل الأمل معقودا على أن يتفهم الغرب الرسالة ويعيها جيدا، وإلا فلا يلومن الغرب إلا نفسه.
