هل تبقى شىء لم يكتب عن خلفيات التغيير الوزارى وأسرار ومستهدفات حكومة محلب؟
لن أتعجل فى تقديم إجابتى، لكى أترك لكم وقتا تفكرون فى كل هذه المقالات والمداخلات التى دارت حول الموضوع من أول «إقالة أم استقالة؟» وحتى «مؤامرة خروج وزراء الثورة وتمكين الفلول!».
طبعا أنا لا أكترث بمثل السؤال الأول، ولا أميل لنظرية المؤامرة كما فى الموضوع الأخير، والأهم من ذلك كله أذكركم بأننى فى الأسبوع الماضى طرحت عددا من المظاهر فى صيغة أسئلة، ووعدتكم بمحاولة الإجابة عنها، ولم يكن من بينها محلب وحكومته، فلماذا إذن أنسى أو أتجاهل استكمال مقالى الأول، وأدخل فى موضوعات أخرى؟
وأطمئنكم أننى لم أتجاهل أو أنسَ، بل إننا دخلنا بالفعل فى قلب الموضوع، وإن تغير شكل الصياد ونوع السمكة، فنحن نتكلم كثيرا حتى يصبح الكلام نفسه هو الواقع، وبدلا من أن يفسر لنا الكلام ما يحدث، يختفى الحدث نفسه تحت رطان الكلام، ويأخذنا إلى مسرح العبث لكى ننتظر «جودو» مع أبطال «صمويل بيكيت»، وننشغل بأشياء ونردد كلمات، لكن من دون أن يحدث شىء أو يجىء أحد.
وبدلا من تكرار الحديث عن «انتظار جودو»، أحكى لكم بعضا مما دار فى منزل أحد الأصدقاء على نيل القاهرة، حيث انهمك عدد من السياسيين والإعلاميين فى نقاش ساخن عن نظام الانتخابات، وكلما مر الوقت ارتفعت الأصوات وزادت درجة الحرارة، وتبلورت الانقسامات أكثر، وصارت الآراء أكثر حدة والتعبيرات أكثر تطرفا، وبعد ساعة تقريبا انصرف نصف الحضور، وانتقلت الجلسة لموضوعات متفرقة تصدرها التغيير الوزارى، وتبارى الجالسون فى استعراض معلومات تفصيلية معظمها متناقض عن أسرار وكواليس التغيير، والخلاف حول أداء الوزراء الخارجين بل الداخلين قبل أن يبدأوا أداءهم، ثم عادت الجلسة بنفس الحماس لمناقشة ما بدأت به عن نظام الانتخابات، وكرر بعضهم نفس الكلمات التى قالها قبل ساعة واحدة، وهذه المرة سئلت صراحة، فأطلقت العنان لبيكيت يتحدث عن «الخواء» وحرضت بريخت على كسر الإيهام فى هذا الاستعراض التمثيلى الطويل، الذى طغى على الواقع السياسى والإعلامى والاجتماعى أيضا، ومد خشبة المسرح بطول وعرض الكرة الأرضية، وبالتالى فإن تغيير الببلاوى بمحلب لا يشكل بالنسبة لى أى تغيير فى الواقع، فالممثل ذاته يخلع قناعا ليلبس قناعا آخر، إنها مجرد حيلة يقوم بها ممثل لإقناع متفرج أو إيهامه، فيبتسم المتفرج عندما ينتصر ممثله، أو يبكى عندما يموت، مع أنه يعرف فى أعماقه أن هذا كله غير حقيقى، لكننا اختزلنا الحياة، وحاصرناها فى هذه اللحظة داخل مسرح الأقنعة المستعارة، وبالتالى ندخل مثل هذه المناقشات الحامية عن النظام، ونحن نقصد «زيادة الراتب» أو «الحصول على كرسى فى البرلمان»، أو «ضمان تسهيلات وإعفاءات تميزنا عن آخرين».. إلخ، ونبدأ فى تفتيت مصطلح النظام بطريقة «المالتى سيستم».. نظام ضريبى، وآخر انتخابى، وثالث مرورى، وعندما لا نعرف نسأل: هو إيه النظام؟.. ومع كل هذا الهوس بالنظام نفتقد فى الواقع لأى نوع من النظام، لأن الشكل حاضر والمفهوم غائب.
وحسب تفسير المشهديين يمكن القول ببساطة إن مصر كلها غارقة فى هذه الحالة الشكلية، فلا عدلى منصور رئيسا، ولا السيسى وزيرا، ولا الحكومة حكومة، ولا الدستور دستورا، ولا الانتخابات المقبلة حقيقية، إنها تمثيلية موجهة للخارج أولا لاستيفاء شكل لابد منه، حتى نخفف ضغوط الوصاية الدولية المهيمنة على مقدرات الدول الضعيفة، فالمطلوب منا أن نصنع دستورا، ونجرى انتخابات، ونردد الشعارات والمواثيق الدولية، ونقتنى المثلث الفوسفورى، وشنطة الإسعافات الأولية ونربط الحزام، لكى نفلت من عقاب الشرطى الدولى، لا يهم أن تجيد استخدام المثلث الفوسفورى أو طفاية الحريق، أو حتى القيادة، ما دمت تمتلك الرخصة «الشرعية الصورية» فأنت فى مأمن، وأمام كل هذا الاعتبار والهيمنة التى اكتسبها المظهر لماذا إذن يهتم الناس بالجوهر؟
وعلى سبيل الاستعراض وتخفيف ثقل المقال أحكى لكم هذا المثال الفلسفى الرائع من مسرحية «حكيم عيون»، حيث كان المرحوم علاء ولى الدين يلعب دور طالب فشل فى كلية الطب فعمل ممرضا فى عيادة طبيب شهير، وتظاهر أمام إخوته أنه تخرج ويمتلك تلك العيادة الفخمة، وذات يوم فاجأه شقيقه الأصغر «كريم عبدالعزيز» بزيارة ليقدم له خطيبته الاستقراطية، ووقع الأخ الفاشل فى مأزق كبير يهدده بافتضاح أمره، وحاول زميله الممرض أن يساعده، فأخبره أن الدكتور صاحب العيادة خارج مصر ويمكنه أن يرتدى معطفه ويجلس على المكتب ويكمل لعبة التظاهر بدلا من الفضيحة.
وسأله علاء ولى الدين: إفرض حد دخل عشان أكشف عليه أتصرف إزاى؟
فقال الممرض: قول أى كلمتين.. فتح عينك، غمض عينك، الفتحة فوق وللا تحت.. هكتب لك قطرة.. أى كلام، المهم تلبس البالطو.
فقال علاء بطريقته المميزة: يعنى مجرد ما ألبس البالطو أبقى دكتور؟.. طيب ما هى سهلة أهى.. ولا ليها لازمة الكلية خالص.
هذه الحكاية تلخص مأزق علاء الطالب الفاشل المتظاهر بالنجاح، ومأزق الدولة التابعة الغارقة فى مشكلات أكبر من إمكانياتها اللحظية، وبالتالى فإن الحل لن يكون أبدا فى محاولة الإفلات الوقتى من المأزق باستخدام حيلة «لبس البالطو» وتوهم الدكترة، أو ارتداء ثوب الدولة القوية القادرة على تحقيق عدالة ناجزة ونظام أجور عالمى، ومستوى معيشة قياسى، ومعدلات أمن معيارية، ونظافة شوارع، ومنظومة خدمات مثالية، وضمان عدم انقطاع الكهرباء وتوفر الطاقة ونظافة الشوارع ومياه شرب نقية. كل هذه الأهداف يمكن أن نسعى إليها لنحقق %8 منها بعد 20 سنة، أما أن نأتى بحكومة مهما كانت قدراتها ونحملها كل هذه البلاوى ونحاسبها صباح اليوم التالى، فهذا لن يحقق لنا إلا مزيدا من التظاهر بمشاريع وهمية، وأرقام زائفة، مع استمرار الصدامات والمزايدات التى تضر بالجميع، ولذلك يجب أن نقلع عن طريقة أرسطو فى التطهير التى تركز على التنفيس وتفريغ شحنات الجمهور بدلا من توعيته وكسر إيهامه حسب نصيحة برتولت بريخت، وبناء عليه أوضح أن مشاركتى فى 30 يونيو والخارطة التى تولدت عنها لا يعنى أن كل شىء بقى تمام بمجرد الإطاحة بحكم الإخوان، ولا يعنى أن لدينا الآن دولة عصرية ونظام إدارى وسياسى ودستور والذى منه، بل يعنى أن «المرحلة الانتقالية» تقتضى دستورا انتقاليا وحكومة انتقالية، وأوضاعا شكلية ووسيطة، قد نسميها غير ذلك، ولكن هذا لنخرس ألسنة الأوصياء المهيمنين المتربصين فى العالم، وليس لكى «نلبس البالطو» ونخدع أنفسنا أننا انتصرنا على الفشل وصرنا ناجحين.. ولنكمل.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
sama reda
عظيم يا دكتور وصلة للتشخيص الصحيح ايه العلاج