فى عام 1969 صدرت الأوامر أن نستعد للحرب، وأثناء اجتماع القادة برئاسة اللواء سعد زغلول عبد الكريم؛ لدراسة الأفكار المقترحة للعبور، وجدت أن كل الاقتراحات التى تم عرضها كان زمن فتح الثغرة فيها كبير، يتراوح بين 12- 15 ساعة، وكانت الخسائر البشرية المتوقعة لا تقل عن 20% من القوات.
وحتى دخلت الاجتماع لم يكن فى ذهنى أى حل للمعضلة العسكرية والعائق الضخم المتمثل فى خط بارليف، ولكن عندما شرح القائد طبيعة المانع، وفهمت أنه يغلب عليه الساتر الترابى تذكرت عملى بالسد العالى، حيث كنت أعمل كمنتدب فى بداية الستينات من إبريل 64 وحتى نكسة 67، ومضخات المياه التى كانت تهزم التراب فى دقائق معدودة، فرفعت يدى فورا وقبل أن يحل دورى فى الكلام.
فطلب منى القائد الانتظار حتى يحل دورى، ولكنى أكدت له أن ما سأقوله هام وعاجل، فسمح لى، فقلت له: " انتو بتقولوا رملة .. وربنا ادانا الحل قدام المشكلة، وتحت رجلينا وهو الميه .. وفى الحالة دى الميه حتكون أقوى من المفرقعات والألغام والصواريخ وأوفر وأسرع"، مجرد ما أنهيت كلامى وجدت سكون فى القاعة، لدرجة أنى "خوفت أكون خرفت".
هكذا انتهت كلمات اللواء باقى زكى يوسف والذى كان برتبة عقيد وقت هذه الأحداث، انتهت كلماته لوصف كيف جاءت فكرة انهيار أكبر مانع مركب فى التاريخ العسكرى، انهيار خط بارليف و الذى نصح الخبراء الروس الرئيس الراحل أنور السادات بعدم الاقتراب منه، لأنه لا يوجد حل لتدميره و من ثمّ عبور قناة السويس إلا استخدام القنابل الذرية و التى لا تملكها مصر، إنه نوع من الإعجاز البشرى الذى يؤكد أن الرجال الذين استطاعوا نفسيا و عسكريا أن يهزموا اليأس فى خلال 6 سنوات هى الفارق ما بين الهزيمة المريرة فى 67 و النصر العظيم فى 73 لا يعجزهم شئ من أسباب الأرض فهم بعقولهم و سواعدهم و إصرارهم و إيمانهم بقضية وطنهم أرقى بكثير من تلك الأسباب.
هزيمة عسكرية منكرة وصلت لحد وصفها بالتاريخ العسكرى بالنكسة انهيار تام لكافة الدفاعات الأرضية و انهيار تام لسلاح الطيران المصرى عزى بالمحتل الإسرائيلى أن يلوح برايته من فوق الضفة الشرقية لقناة السويس و عزى به أن ينتهك السماء المصرية كلما يحلوا له و بلا أى مضايقة و انهال بالضربات داخل العمق المصرى حتى وصل جنوبا لنجع حمادى و غربا لمطار القاهرة يحصد من حياة المصريين و منشآتهم الحيوية ما يتخير له وقت ما يشاء، و ما كان من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلا ان يُعيد بناء قوات الدفاع الجوى لحماية سماء مصر من ذلك الطغيان.
بدأ سلاح المهندسين فى بناء حائط الصواريخ سام 6 الروسى الصنع و المتقدم فى ذلك الوقت، و لكن تحت وطأة نيران الطائرات الإسرائيلية، كان العمل يتباطئ و كانت التضحيات أكثر تسارعا.
و قبل وفاته ب 35 يوما قبل اتفاقية وقف إطلاق النار فيما يعرف باقتراح رورجز حتى يتمكن الجيش من استكمال بناء حائط الصواريخ على الضفة الغربية للقناة و إعداد كافة القوات للحرب.
و جدد الرئيس أنور السادات قبوله للاتفاقية بعد توليه المسئولية فى أعقاب وفاة ناصر، و منذ ذلك الحين أعطى التوجيه الاستراتيجى للقوات المسلحة بالاستعداد للحرب و عبور قناة السويس.
منذ ذلك الحين و حتى السادس من أكتوبر 73 واجه الرئيس السادات و القيادة العسكرية ضغوطا شعبية هائلة لكسر وقف إطلاق النار و بدء الحرب لتحرير أرض سيناء المحتلة، مظاهرات فى الجامعات و أُدباء و ساسة كبار اتهموا السادات بالتخاذل فى أمر تحرير الأرض بل شككوا فى أن ذلك لن يحدث أبداً، الإحباط تسرّب إلى الجميع، فالهزيمة كانت مريرة أورثت فى نفوس الشعب اليأس و النفور من كل شئ و الاستهزاء بكل شئ يتعلق بالحرب و تحرير الأرض، حتى نال السادات ما يكفى من سخرية و استهزاء و احتجاجات قوية ضده، و لكن هناك بعيداً و بمعزل عن الجميع داخل سكناتهم العسكرية ضباط و جنود يسارعون الزمن تدريبا و استعداداً و تجهيزاً لكل مراحل معركة الكرامة، هم دأبوا على ذلك أن يعملوا فقط و أن يطرحوا اللغط و الجدل جانباً حتى فاجئوا العالم، بل فاجئوا المصريون أنفسهم بأنهم يُقاتلون كما لم يُقاتل أحد من قبلهم، كل خطوة لهم محسوبة الجوانب بدقة ليس لديهم استعداد للخطأ و لو كان يسيرا، تلك هى قواتنا المسلحة منذ ذلك الحين و هى ميزان الانضباط و ميزان الابتكار و إذهال العالم.
لو أنَّ كان قد سرب خبر أن القوات المسلحة المصرية فى عام 1969 سوف تقوم بإزالة خط بارليف المنيع بخراطيم مياه المطافئ إلى الشعب المُحبط اليائس وقتها، لكانت قوبلت بموجة سخرية من الشعب المصرى كانت كفيلة وقتها بأن يتراجعوا عن الفكرة و يتراجعوا أيضا عن الحرب برمتها.
ولكن القوات المسلحة أخذت تلك الفكرة و قامت بالتجربة العملية عليها منذ عام 69 و حتى عام 72 و طورتها و دربت القوات عليها تدريبا كان أشق من الحرب نفسها حسب وصف من اشتركوا بالمعركة و أسرّوا أمرهم بينهم و كانت قنبلتهم الذرية التى أذهلت التاريخ العسكرى كله " خراطيم مياه " !.
وها هو التاريخ يُعيد نفسه مرة أخرى عندما أعلنت القوات المسلحة قريباً عن اختراع الهيئة الهندسية بها لجهاز يُعالج مرضى الإصابة بفيروسى " سى و الإيدز " بعد فترات تجارب على مرضى مصابين بتلك الفيروسات تجاوزت ال 3 سنوات و لهول المفاجأة انهال أعضاء جماعة الإخوان الإرهابية و التى تنصب الجيش المصرى عدواً لها و انهال من تبعهم فكريا على الكشف الطبى المذهل سخريةً و إنكاراً و تشكيكاً، بل و خرجت بعض وسائل الإعلام العالمية تشكك فى الأمر و كأن لزم على المصريين أن يكونوا تابعين لا متبعوين، و كأن لزم على المصريين أن يكونوا دائماً فى مؤخرة الأمم و أن يتلقوا العلوم لا أن يُصدروها !.
كثيرٌ من كبار الأطباء بمصر و العالم أكدوا صحة الكشف الطبى و كثير من المرضى الذين تلقوا العلاج عليه خرجوا على وسائل الإعلام المختلفة و أكدوا صحته و مدى كفائته فى علاجهم، و القوات المسلحة أعلنت موعداً عن بدء علاج المرضى بمصر بذلك العلاج الجديد بدءاً من الأول من يوليو القادم بمستشفى تُعد لهذا الغرض بمنطقة العين السخنة بالبحر الأحمر، و لكن سيل السخرية من النشطاء و أعضاء الجماعة الإرهابية لم يتوقف على السواء، فقط لأن هذا الأختراع خرج من القوات المسلحة و تخوفهم من ذلك أن يكون هذا الإعلان هو مجرد دعاية مسبقة للمشير عبد الفتاح السيسى وزير الدفاع قبل الإعلان عن ترشحه لمنصب رئيس الجمهورية، و كأن المشير السيسى ينتظر دعاية من المؤسسة العسكرية لكى ينجح و هم أنفسم يدركون حجم شعبيته الكبيرة وسط الأغلبية الصامتة التى صوتت بكثافة للتعديلات الدستورية بناء على طلبه لهم !.
والحقيقة أنه يجب على أن لا نعول كثيراً على هؤلاء الشباب المتشكك و الساخر من الكشف الطبى و نلتمس لهم جميعاً العذر فقد تربوا فى ظل نظام قتل فى أنفسهم أىُّ نوع من أنواع التفاؤل ولم ينسى النظام السابق أن يكسر فى أنفسهم روح الابتكار بل و كفَّرهم فى مجرد الانتماء للوطن وصعوبة الإيمان بأن يخرج من هذا الوطن من يبتكر أو يخترع شيئا يتفوقون هم به على البشرية و يعيدوا أمجاد الماضى، لأنهم فقدوا الحاضر و المستقبل على يد نظام مبارك و ما تلى سقوطه من أحداث.
و نسوا أو تناسوا أو تجاهلوا عن عمدٍ أن العلماء الذين يقودون الدوائر العلمية الدولية هم من أبناء جلدتهم، مصريون، وهكذا أصبح لدينا جيلاً كاملاً من الضياع، جيلاً قُتل فيه كل شئ حتى ثقته بنفسه فخرج باللعنات على كل شئ، و على العكس أيضا و كما كان فى الماضى أنتج جيل أكتوبر داخل القوات المسلحة المصرية المؤسسة الأكثر انضباطا فى مصر جيلاً آخر يعقبهم لا يعترفون بالمستحيل و لا يتطرقون إلى الجدل و المهاترات، روح أكتوبر الممتزجة بدمائهم هى التى عزلتهم عن جيل الضياع نتاج فساد الأنظمة السابقة.
و شتان الفارق ما بين جيل أكتوبر و ما بين جيل الضياع .
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد السيد
كلام سليم و متزن للتعبير عن جيل حطمه مبارك