فى حياة الأوطان لحظات مصيرية، إذا افتقدت من يحسن قراءتها ويحسن التعامل مع استحقاقاتها تمضى، وتمضى معها الفرصة التى قد لا تأتى ثانية.
فى هذا الوطن المنهك كم نحتاج إلى لحظات مكاشفة حقيقية، نتعرف فيها على حقيقة ما تحمله اللحظة الآنية من فرص، وما تطرحه من تهديدات، انتقلنا منذ ثلاثة أعوام وتحديداً فى 11 فبراير من عام 2011 عام الهبة الجماهيرية، التى لم أنتبه لتغيير اسمها من ثورة إلى هبة، إلا بعد تفكير عميق لحقيقتها فى الفعل والمآل، انتقلنا من مربع الثورة إلى مربع السياسة
الثورة بما حملته من آمال وطموحات لامست كبد السماء، وما حملته من توحد حول مطالب هدم نظام فاسد مستبد جرف كل معانى الحياة، إلى نظام جديد عادل، يعيد الانتصار لحياة إنسان عانى طويلا من غياب مقومات طبيعية، يشترك فيها كل البشر فى كل بلدان العالم الحر، إلى السياسة التى هى فن الممكن والتعامل مع الواقع
وأنصاف الحلول والنضال السلمى الهادئ، من خلال أدوات الصراع السياسى بحركة الأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى والانتخابات، سواءً الرئاسية أو البرلمانية أو المحليات، وما تطرحه من حملات انتخابية، وجدل حول البرامج والرؤى والأفكار.
الناس فى مصر بين طريقين، وأعنى بالناس هنا السواد الأعظم من هذا الشعب، الذى يخوض معاركه حسبة لله وللوطن، لا لجماعة لها مشروعها الخاص، ولا لمجموعات مصالح تحاول أن تعيدنا إلى ماضٍ مغموس بالفساد والاستبداد، أنا أتحدث عن الذين اتفقوا معا على هدم النظام السابق، ولم يتفقوا على كيفية بناء النظام القادم.
من نافلة القول أن عجلة الزمان لا تعود للوراء، ولكنها أيضاً قد تدور فى دائرة دون أن تمضى للأمام على غير مراد الناس، ولكى لا ندور فى دائرة مفرغة، هل ندرك جميعاً أننا يجب أن نتفق على مجموعة من الأشياء تمهد للانطلاق نحو المستقبل والحركة للأمام.
هل الثورة هدف أم وسيلة؟ أعتقد أنها وسيلة تأتى حين تسد طرق الإصلاح والتغيير التى تعارفت عليها أمم سبقتنا فى النهوض والتحديث.
هل فى طاقة هذا المجتمع وهو يواجه مؤامرة حقيقية لشغله بنفسه وتبديد طاقة أبنائه فى صراع بينهم أن يتحمل كلفة ثورة جديدة؟ تقدم الدم والعرق والدموع لنعود إلى نفس النقطة؟ بعد أن نخسر أشرف وأنقى ما فى هذا الوطن؟
هل المزاج الشعبى الذى أحتضن 25 يناير تحول ضد يناير وغير يناير أم لا؟ أظن أن الشعب فى عمومه لم يعد مؤمنا بفكرة الثورة، وهذا لا يطعن فى صفاته أو سماته، ولكن لكل شعب طبائعه التى يجبب أن تحترم.
أيهما أقل كلفة إصلاح المؤسسات بهدوء وببرنامج واضح يستنهض كل الطاقات القادرة على التطوير والإصلاح؟ أم هدم المؤسسات وإعادة بنائها كما تقضى الثورة؟ لو سألتنى سأجيبك بالثانية، ولكن عقلى وحالة البلد تدفعنى دفعا للقبول بخيار الإصلاح بديلاً عن الهدم
مصر عانت طويلاً نعم، ولكنها أيضاً وعبر ثلاثة أعوام مر عليها شريط يلخص ما عانته أمتنا طوال قرون، يعطيها حكمة القرون فى شهور معدودة، هذا الشريط طرح بعض العبر الهامة منها:
كل حركة ادعت الصلة بمنهج السماء وبشرت الناس بأنهار العسل واللبن، وجمعت بين الدعوة والسياسة، انتهى مصيرها بأن جنت على الاثنين، فلم تخدم الدعوة ولم تنجح فى السياسة والحكم.
كل حركة أو حزب أو فئة، ادعت الصلة بالوطنية وجعلتها لها اسما، ثم بنت شبكة من المصالح تزاوجت فيها السلطة مع رأس المال، انتهت إلى فساد واستبداد، أفسد البلاد وأهلك العباد.
الحرية لا تعنى الفوضى، بل تعنى الحق فى الاختيار الجمعى الحر، واحترام ما تتوافق عليه الشعوب فى مراحلها الانتقالية.
الخيارات الحدية فى المراحل الانتقالية قاتلة لمستقبل الأوطان، والتوافق مطلوب فى تلك المراحل حتى تتهيأ الأجواء لمنافسة، تضع الرجل المناسب فى المكان المناسب.
إذا كنا جادين فى الاحتكام للديمقراطية، فلا يجب أن نفتتن بالألية الديمقراطية على حساب القيمة أو المبدأ أو الفلسفة، الديمقراطية لا تعنى الصندوق، بقدر ما تعنى ثقافة الاختيار وتكافؤ الفرص وحرية التغيير قبل حرية التعبير، وبالتالى مواجهة التجريف الذى جرى قبل يناير يقتضى أنه حتى فيما يتعلق بالتثوير، فإنه لا يصنع تغييرا قبل أن يسبقه التنوير، وليس التزوير كما حدث عندما اختطف مصطلح الثورة ليدفع الوطن فى مسار، لم تتفق عليه الجمعية العمومية لهذا الشعب.
مصر بحاجة لهدنة لالتقاط الأنفاس، وأنا لا أخدر وعى أحد، بل على العكس ما أقوله هو ثمرة وعى باللحظة، مصر منهكة وبحاجة إلا أن تتحسس موضع أقدامها، وتفكر مع كل بنيها بصوت عال، من أين الطريق؟ وماذا ينبغى أن نفعل؟
أوجاع المواطن فى هذا البلد لا يجهلها أحد، كما أنه أيضاً لم يتعامل معها أحد على نحو جاد، لدينا مشكلات فى أبجديات ما قامت الدول لتحققه لأفرادها، تعليم صدق فيه قول القائل، لم يعد يعبر سوى عن عدد السنوات التى قضاها الإنسان فى مقاعد الدراسة، رعاية صحية بائسة وأمراض تنهش جسد المواطن، غذاء لا علاقة له باسمه من قريب أو بعيد، إعلام بائس مشغول بالتزوير وليس التنوير، طرق مواصلات مساكن وغيرها من مقومات الحياة الغائبة التى يقصر عن ذكرها مقال.
أما أخطر أوجاع هذا الوطن، فهى حالة الانقسام المجتمعى التى يسعى البعض لتكريسها بالمكارثية والقمع من جانب، والمظلومية والخداع من جانب آخر.
هذا البلد لن يمضى للمستقبل وهو على هذه الحال، إن أول استحقاق يجب أن يشغلنا وقبل استكمال بناء المؤسسات، هو أن تعكس هذه المؤسسات كل الطيف الوطنى، ولن يتأتى ذلك إلا عبر مصالحة وطنية شاملة، نصالح فيها معنى الوطن، نصالح فيها قيم التعايش والمواطنة للجميع، دون إقصاء أو اصطفاء، نعيد توحيد تلك القبائل التى ظهرت فجأة، لنعود وطناً واحداً، لقد كتبت فى مقال سابق رسالة لرئيس مصر القادم، وأنا فى السطور السابقة أخاطب ضمير كل المصريين من المسيسين وغيرهم، الوطن يضيع، ولا نملك إلا أن نستيقظ ونفيق من السكرة، عسى أن تأتى الفكرة التى تقودنا للخلاص.
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
ياسر الكرماني
مقال مستنير لكاتب مستنير
و فقك الله يا أستاذ أحمد