ما السر الذى يجعل المشاهد مفتونا بفيلم «أمير الانتقام» ويحرص على متابعته كلما عُرض فى هذه القناة أو تلك؟ وما الخبايا التى دفعته ليحتل مكانة مرموقة فى سلسلة الأفلام المميزة التى أنجزها المخرج الكبير هنرى بركات؟ وبرغم أن الفيلم قد تم عرضه للمرة الأولى فى «23 أكتوبر 1950»، أى منذ 64 عامًا فإنه مازال يلقى إعجابا كبيرا عند عرضه فى الفضائيات.
اللافت للانتباه أن الجمهور استقبل هذا الفيلم بحفاوة كبيرة حين عُرضَ فى العهد الملكى، لكن عندما أعاد بركات إنتاجه مرة أخرى باسم «أمير الدهاء» فى عام 1964، وصوَّره بالألوان، لم يلق أى نجاح تقريبا وأخفق الفيلم بشكل كبير، ولكن تلك قصة أخرى سنستعرضها فى نهاية المقال.
تعالوا نتحدث عن «أمير الانتقام» ومخرجه بركات بمناسبة مرور 17 عاما على رحيله، لنكتشف السر الذى دفع الناس إلى أن تحتفى بهذا الفيلم ساعة عرضه، لتنتقل هذه الحفاوة من قرن إلى آخر، إذ مازال حيا ينبض فى وجدان جمهور هذا الزمان!
الحالة المصرية
فى عام 1950 - وقت عرض الفيلم - كان عدد المصريين نحو 18 مليون إنسان، وكان أكثر من ثلاثة أرباع هذا العدد يكابد الظلم والقهر والحرمان بصورة مفزعة.. فى ذلك الوقت كان الملك فاروق غارقا فى ملذاته بشكل بائس، حتى فاحت روائح فساده وتهتكه خارج جدران قصر عابدين، وفى هذا العام بلغ الغضب الشعبى من الاحتلال الإنجليزى مستواه، الأمر الذى دفع مصطفى النحاس رئيس الحكومة إلى إلغاء معاهدة 1936 فى العام التالى 1951!
أما فى العام السابق لعرض «أمير الانتقام» - 1949 - فقد شهد اغتيال حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها العام ردا على قيام الجماعة باغتيال محمود فهمى النقراشى باشا رئيس الوزراء فى ديسمبر 1948، وهكذا وجد المصريون أنفسهم فى دوامة من الظلم والقهر والحرمان، بينما الملك وحاشيته وزبانيته يتنعمون بخيرات البلاد، فى حين أن الانجليز يسيطرون على مقدرات الوطن، ويتحكمون فى الملك والأحزاب والاقتصاد!
التوقيت المناسب
لعلك توافقنى الرأى على أن التوقيت المناسب لظهور أى عمل فنى أو أدبى من أهم الأسباب التى تؤثر على نجاح هذا العمل، وفيلم «أمير الانتقام» يحقق هذه المسألة بامتياز، إذ عرض فى توقيت ملائم جدا مع المزاج العام للجماهير فى ذلك الزمن البعيد، لأن فكرة الفيلم وحبكته تتكئان على فضح الظلم وإدانته بشكل أساسى من جهة، وعلى الرغبة الجارفة فى التحرر والانطلاق من جهة أخرى، وقد فات عليك عذابات المصريين فى ذلك الوقت ووقوعهم فى فخ الثلاثى التعيس، الفقر والقهر والمرض، بسبب الملك الفاسد من جهة والاحتلال الإنجليزى البغيض من جهة ثانية.
لم يكن «أمير الانتقام» أول أفلام بركات، بل كان الفيلم رقم 15 فى ظرف ثمانية أعوام فقط، إذ بدأ مشواره مع الإخراج بفيلم «الشريد 1942»، من إنتاج آسيا وبطولتها مع حسين رياض وزكى رستم، وقد أنتجت آسيا - صاحبة شركة لوتس - معظم الأفلام التى أنجزها بركات فى عقد الأربعينيات من القرن الماضى وهى: «لو كنت غنى 1942 لبشارة واكيم وإحسان الجزايرلى»، «المتهمة 1942 لآسيا وزكى رستم»، «أمّا جنان 1944 لآسيا وفؤاد شفيق»، «القلب له واحد 1945 أول فيلم لصباح مع أنور وجدى»، «هذا جناه أبى 1945 أول فيلم لصلاح نظمى»، «الهانم 1947 لآسيا وزكى رستم وفاتن حمامة»، «حبيب العمر 1947 من إنتاج فريد الأطرش وبطولته»، «الواجب 1948 لسراج منير وفردوس محمد وإنتاج آسيا»، «العقاب 1948 لمحمود المليجى وزوزو ماضى وفاتن حمامة»، «سجى الليل 1948 من إنتاج شركة اتحاد الفنانين بطولة ليلى فوزى وعماد حمدى»، «عفريتة هانم 1949 من إنتاج وبطولة فريد الأطرش»، «شاطئ الغرام 1950 من إنتاج المصور عبدالحليم نصر وبطولة ليلى مراد وحسين صدقى»، و«معلهش يا زهر من إنتاج آسيا وبطولة زكى رستم وميمى شكيب».
المخرج البارع
حين تصدى بركات لإخراج «أمير الانتقام» كان قد قطع رحلة طويلة مع عالم السينما حقق خلالها نجاحات كبيرة، والقائمة التى مرت عليك قبل قليل تؤكد أنه بالفعل مخرج متميز يمتلك حساسية مفرطة فى التعامل مع القصة السينمائية وكيفية تناولها على الشاشة، ولعل فيلمه البديع «معلهش يا زهر» يكشف حجم موهبة هذا المخرج المتميز.
لذا حين أقدم على تحويل رواية «الكونت دى مونت كريستو» التى أبدعها «ألكسندر دوماس الأب 1802/ 1870» إلى فيلم سينمائى كان قد أتقن فنون السينما وأدرك قوانينها، واختبر أدواته الفنية واطمأن إلى سلامتها وجودتها فى أكثر من عمل، وهكذا حشد لهذا الفيلم التاريخى الكبير كل ما يمكنه من إنجاز عمل باذخ ومدهش، والحق، فإن آسيا داغر، المنتجة الذكية لم تبخل عليه بالمال، ووفرت له كل طلباته، الأمر الذى ساعده كثيرا على تشييد قطعة حية من العصر المملوكى بقصوره وبيوته وسجونه ورجاله ونسائه وعبيده وجواريه وحيواناته حتى جعلنا نشعر ونحن نشاهد هذا الفيلم أنه نجح فى اصطياد الزمن المملوكى، وأننا حقا نسبح فى بحر التاريخ القديم.
إذا دققت النظر فى مقدمة الفيلم فستلاحظ الجهد والمال المبذولين من أجل أن يخرج «أمير الانتقام» فى أبهى صورة، فقد كتبت المقدمة كلها بخط النسخ الرائق والصافى، باستثناء اسم الفيلم نفسه فقد كتب بالخط الكوفى الذى ينقلنا على الفور إلى العصر الذى كان، ثم كتب بعد ذلك: «الممثلون حسب ترتيب ظهورهم على الشاشة مع احترامنا لمكانتهم الفنية»، أما السيناريو فقد صاغه بركات نفسه الذى اشترك مع يوسف جوهر ويوسف عيسى فى كتابة الحوار، ولعل تعاون هذا الثلاثى الموهوب فى كتابة الحوار هو الذى جعل بعض جمل وعبارات هذا الفيلم راسخة فى وجدان المصريين وذاكرتهم حتى الآن، من فرط صدقها ومعمارها اللغوى الرصين وإيقاعها الجميل «تذكر معى بعض هذه الكلمات: أنا حسن الهلالى، أو الأول.. الثانى، أو معتقل المغول.. أو.. «أنا حاسس بالضعف بيدب فى جسمى» التى قالها حسين رياض لحسن الهلالى فى الزنزانة، أو «وصية ريس يسلم الروح أمر مقدس يا حسن.. كلامك بالصدق ناطق»، كما جاء فى الحوار بين أنور وجدى وسراج منير، ولا تنس أن المكان الذى يمارس فيه بدران - قائد الشرطة - سلطاته مقبضا للقلب، وقد وفق المخرج كثيرا حين جعل الكاميرا تتحرك مع حسن الهلالى فى السرداب المنخفض السقف حتى وصل إلى مكتب بدران، بينما المشاعل والحراس متراصون على الجانبين ليقذفوا الرعب فى صدر أى إنسان سيئ الطالع اضطرته الظروف إلى التواجد فى هذا المكان الموحش.. «ملحوظة موجعة.. كان مبارك وأجهزته الأمنية الباطشة يعتقلون المصريين ويعذبونهم فى أماكن تشبه إلى حد كبير الأماكن المخيفة فى أمير الانتقام، ويبدو أن هناك بعض ضباط الشرطة مازالوا ينتهكون الآن حقوق الإنسان فى الأماكن نفسها وبأساليب بالغة الوحشية بكل أسف، برغم أننا قمنا بثورتين ضد البطش والتعذيب فى المقام الأول».
الأجانب.. المصريون!
الغريب فى هذا الفيلم الرائع أن هناك أربعة أجانب أسهموا بدور رئيسى فى اقتناص الزمن وتكثيفه فى مشاهد سينمائية بالغة الحيوية والدلالة، وهؤلاء الأربعة هم: «بيير كلوفاس» الذى تولى تصميم ملابس أنور وجدى حين صار الأمير عز الدين، وملابس جاريته سامية جمال أو «زمردة» وملابس حبيبته السابقة مديحة يسرى أو «ياسمينة».
«أنطون بوليزويس» هو الفنان الأجنبى الثانى الذى قام بتصميم الديكور، وأظن أننى لست فى حاجة إلى لفت انتباهك إلى براعته فى تخليق أجواء العصر المملوكى الذى دارت فيه الأحداث، أما الأجنبى الثالث فهو «ميتشو» فنان الماكياج الموهوب، وأظنك تذكر جيدا الماكياج المعبر لحسين رياض فى الزنزانة وأنور وجدى فى حالتيه، ويبقى الأجنبى الرابع «جوليو دى لوكا» الذى تولى مهمة مدير التصوير، ولا يغيب عن ذكائك كيف استطاع هؤلاء الفنيون إتمام الأدوار الرئيسية المهمة التى كلفوا بها على خير وجه.
لقد قلت فى مطلع الفقرة السابقة «الغريب فى هذا الفيلم»، وهذا خطأ أعتذر عنه، لأن وجود الأجانب فى مصر لم يكن غريبا فى ذلك الوقت، إذ استوعبت مصر طوال القرن التاسع عشر آلاف اليونانيين والأرمن والجراكسة والإيطاليين والفرنسيين وغيرهم من الجنسيات الأوروبية والآسيوية والعربية، حيث عاش هؤلاء فى مصر وعملوا بها، فاندمجوا مع أهلها وأفادوا البلد واستفادوا، وليس سرا أن عدد الأرمن بمصر فى الأربعينيات من القرن الماضى - على سبيل المثال - قد بلغ أربعين ألف إنسان، «ملحوظة فكر فيها.. عددهم الآن 2500 شخص فقط.. لماذا؟!».
مقومات النجاح
حشد بركات فى هذا الفيلم كل مقومات النجاح ومشهياته ووظفها بحرفية عالية، فالفيلم بدأ بأغنية «على دمياط» يشدو بها المطرب السيد إسماعيل صاحب الأغنية الشهيرة «لمهندس جى.. لمهندس جى»، وهى افتتاحية تؤهلنا لمشاهدة عمل مبهج، خاصة أن الكاميرا صورت المركب يشق عباب البحر، الأمر الذى يوحى بالفضاء والمرح، ثم انهمرت الأحداث الساخنة والمكائد الملعونة لنرى البطل الشهم نزيل زنزانة غليظة الجدران، فى أثناء الأحداث استعان بركات بالغناء أكثر من مرة، فسمعنا أغنيات ترنمت بها كل من فاطمة على وعصمت عبدالعليم، وقبل نهاية الفيلم صدحت المطربة المتميزة «شهر زاد» بأغنية فاتنة اسمها «يا لله السلامة» تحذر فيها أنور وجدى من غدر رئيس الشرطة، وقد كتب كلمات الأغانى كلها الشاعر الرقيق عبدالفتاح مصطفى، ولحنها أحمد صدقى، وتمكن بركات من استثمارها بذكاء فى تعميق الحس الدرامى لدى المشاهد وإثارة خياله.
بطبيعة الحال لا يمكن أن ننسى مشهد الربابة فى الفيلم عندما دعا الأمير عز الدين «أنور وجدى» أعداءه السابقين لسهرة فى قصره، وراح المنشد «السيد فرج السيد» يروى بأداء مؤثر على أنغام الربابة قصة غدر خسيسة مشابهة لما حدث مع بطل فيلمنا، ويبدو أن بيرم التونسى الذى كتب شعر الربابة قد مرّ فى حياته بتجارب حزينة ومؤلمة لأنه أبدعها بإحساس عال وحصافة رشيقة، وبالمناسبة قدم صلاح منصور المشهد التمثيلى الصامت بجدية، وقد يكون هذا أول مشهد «بانتوميم» فى السينما المصرية.
إن استعانة بركات، هذا المخرج واسع الحيلة، بالربابة ومنشدها أعطى الفيلم دفقة من الصدق الفنى الخالص، فقد شعرنا بحق أننا نرى حكاية حقيقية، وأننا فى رحلة عبر الزمن، وأن سراج منير قائد شرطة فظ وشرس، وأن أنور وجدى كابد الأمرين، وأن على الكسار عبد مخلص، وسامية جمال جارية وفية، وأن.. وأن.
مقام الملك
كعادة السينما المصرية التى تتناول قضايا السياسة، تبرئ دومًا حاكم البلاد من الفساد والبطش، وتلصق الظلم الواقع على الشعب بالحاشية والوزير الأول «تذكر فيلم لاشين 1938»، ولم يكن من الممكن أن يخرج بركات عن هذا الصراط السينمائى المستقيم، فقد ظهر الوالى «عبدالرحيم الزرقانى» فى «أمير الانتقام» رجلا طيبًا يهوى الغناء ولعب الشطرنج، تاركا لبدران تسيير شؤون الولاية، ولما أدرك الحقيقة المُرة اتخذ الإجراءات اللازمة لإعادة الأمور إلى وضعها الصحيح، ترى هل أراد بركات أن ينبه الملك فاروق بما يحدث؟ أم هل رغب فى إدانته لأنه لم يرع شؤون شعبه؟ أم من الصعب القياس المباشر بين الواقع الحقيقى والعمل الفنى؟ على أية حال سيظل «أمير الانتقام» فيلما كامل الأوصاف إلا قليلا، وقد سمعت بركات يتحدث عن الفيلم بعد أكثر من أربعين سنة على إنتاجه ويقول إن العيب الوحيد فى الفيلم يتمثل فى أنور وجدى، لأنه كان بدينا بصورة لا تليق مع رجل ظل سجينا أكثر من 15 سنة! لكننا لم نلتفت إلى هذه الملاحظة وأحببنا الفيلم بكل نجومه البدناء والنحفاء!
أمير الدهاء.. الباهت!
لا يعرف أحد الإجابة القاطعة التى دفعت بركات إلى تحمل تكاليف إعادة تقديم الفيلم مرة أخرى بعد مرور 14 سنة على إنجاز الفيلم الأول؟ هل شعر أن «أمير الانتقام» يستحق أن يعاد تصويره بالألوان؟ أم ظن أن القصة صالحة لأن تقدم مرة أخرى، وبالتالى سيربح منها الكثير من المال بوصفه منتج الفيلم؟
المؤسف أن بركات لم ينتبه أبدًا إلى مزاج الجماهير الذى تبدل تبدلا كليا طوال هذه الأعوام الأربعة عشر، ففى أول فبراير من عام 1964، وهو وقت عرض «أمير الدهاء» للمرة الأولى كان المصريون قد تخلصوا من الملك والإنجليز وكان عبدالناصر قد سعى إلى تحقيق قدر لا بأس به من العدالة الاجتماعية، وبالتالى انتفى شعور الظلم أو قل بشكل كبير، وهو الشعور السائد لدى الملايين حين عرضت النسخة القديمة، كما أن بركات خانه التوفيق عندما أطلق على فيلمه اسم «أمير الدهاء»، لأن الدهاء يعنى المكر والخبث وقد يمتد إلى الغدر، وهى كلمات تترك فى وجدان المشاهد مشاعر سلبية تجاه الشخص الماكر أو الداهية، بعكس «الانتقام» الذى يوحى بأن المنتقم هذا ما كان له أن يمارس انتقامه لو لم يكن قد تعرض إلى ظلم واضطهاد، الأمر الذى يغذى داخل المشاهد مشاعر التعاطف معه إلى حد كبير.
فى عام 1964 امتلأت صدور الشعب المصرى بأحاسيس العزة والكرامة، ورفرف الأمل فوق جباه الملايين الذين تلقوا التعليم المجانى فى عهد ناصر، وبالتالى حين ذهب الشباب إلى السينما لمشاهدة «أمير الدهاء» وجدوا أنفسهم أمام فيلم غريب، يطرح قضايا لا تمسهم من قريب أو بعيد، فلم ينفعلوا بالصخب اللونى المراق على الشاشة، ولم يتأثروا بمأساة «فريد شوقى» ولا ببطش محمود مرسى، فخرجوا من السينما كما دخلوا، وظل الفيلم الأصلى أكثر رسوخا وتأثيرًا.
بعكس «أمير الانتقام» الذى تولى فيه أربعة فنانين أجانب مهمات تنفيذية كبيرة كما فات عليك، فإن «أمير الدهاء» لم يستعن بأى فنان أو فنى أجنبى على الإطلاق، الأمر الذى حرمه من التنوع الخلاق، كما لا تنسى أن فريد الأطرش هو الذى وضع موسيقى رقصات الفيلم الأول، وهو فنان يعرف كيف يدغدغ مشاعر المستعمين بموسيقاه الراقصة، فى حين أن الذى وضع موسيقى الفيلم الثانى «ميشيل يوسف» لم يتمكن من إحداث الأثر المطلوب فى مشاهديه.
من ناحية أخرى اشترك ثلاثة مبدعين فى كتابة حوار «أمير الانتقام»، بينما كتب يوسف عيسى وحده حوار النسخة الحديثة من الفيلم، وأظنك تتفق معى على أن التعاون المشترك يثرى العمل ويزيد من فاعليته، كما أن تصوير الفيلم بالأبيض والأسود منح المتلقى شعورًا قويًا بأنه يرى أحداثا وقعت فى الأيام الخالية، لكن النسخة الملونة سددت فى عيون المشاهدين رصاصات اغتراب عما يتابعونه على الشاشة، ويبقى المزاج العام للجمهور لحظة عرض الفيلم هو الحاسم فى النهاية على إخفاق «أمير الدهاء» فى التوغل داخل وجدان مشاهديه.
إن «أمير الانتقام» فيلم ساحر بحق، ومن حق بركات أن يباهى به، أما «أمير الدهاء» فينضم إلى قائمة الأفلام الباهتة، وليت بركات ما تورط فيه!
ليس من السهل على امرأة عربية أن تكتب سيرتها الذاتية، فما بالك بسيدة دارسة للفلسفة.. عاشقة للثقافة والإبداع، ومؤسسة لمجلة وصالون أدبى؟ وزوجة لوزير؟ وصديقة لملكة مصر؟ وراعية للفنانين؟ ومشجعة للمبدعين؟ وكيف لامرأة التقت وحاورت وصادقت ملوكًا وأمراء أن تكتب سيرتها، وأولئك وهؤلاء مرّوا فى حياتها بكل نبلهم وخستهم؟ بكل هيلمانهم وضعفهم؟ وكيف لسيدة أن تروى ما رأت وما سمعت وخالها السياسى أمين عثمان الذى اغتيل فى عام 1946؟ ومن أين تملك الجرأة فى البوح وهى التى ارتبطت بصداقات مع عبدالوهاب ونجيب محفوظ وأحمد بهاء الدين وإحسان عبدالقدوس ومصطفى محمود و.. و.. و..؟
إنها الجسورة دومًا الدكتورة لوتس عبدالكريم التى روت سيرتها فى كتاب مدهش ذى طباعة فاخرة تحت اسم «رحلة البحث عنى.. رواية حياة»، وقد صدر مؤخرًا عن الدار المصرية اللبنانية.
لذة البوح
للبوح لذة للذين يعشقون الأدب، وللحكى فتنة للذين يمارسون الفن، وللتأمل متعة للذين يطرحون السؤال، ولوتس عبدالكريم تحمل بين جوانحها الثلاثى المحير والعجيب: الأدب والفن والتأمل، لذا جاء الكتاب فياضًا بالآراء الجريئة، ومحتشدًا بالوقائع المدهشة، وساردًا لحكايات غريبة، ومطلًا على زمن مضى، ومذكرًا بأيام خالية، ومشرفًا على أماكن حيوية، وراصدًا مناطق نائية. اقرأ معى ما كتبته عن نفسها: «مارست حريتى بلا قيود ولا رقابة إلا من عقلى وعلمى، وعشت فى حوار طويل مع نفسى، دومًا كنت بحاجة إلى الفلسفة، فالمنطق هو العقل، ثم التفكير والأخلاق. كنت أعرف أنه لا يوجد كسب بلا ثمن، ولا متعة بلا مجهود. لقد عشت الحياة بطولها وعرضها، لكن هناك دائمًا المرض والألم والكآبة. كان هناك الثمن. لقد لعبت المصادفة دورًا مهمًا فى حياتى، ولكم يكن لى شريك فى وحدتى غير تأملاتى».
تتحدث الدكتورة لوتس بصراحة متناهية عن أسرتها ونشأتها، ولا تخجل أن تقول رأيها فى والدها القاسى والمتجبر، بل تتهمه بأنه لعب دورًا مؤسفًا فى وفاة والدتها نظرًا لقسوته وفظاظته.. اقرأ معى هذه الفقرة عن أبيها وأمها: «كان قاسيًا فظا، وكانت رقيقة حنونة. كان سريع الغضب والتهور، وكانت عاقلة، صامدة، صبورًا. كان يتعمد إغاظتها وإثارتها، وكانت هادئة، مهذبة. كان مريضًا باشتهاء النساء حتى أقربهن إليها، وكانت محتشمة لا تعاتبه أو تسائله».
أرأيت صراحة أكثر من هذا؟ ولما كبرت وتعلمت واجهته بقوة، خاصة أنه تزوج امرأة أخرى بعد وفاة والدتها، أذاقت لوتس وشقيقيها «أسامة» و«زيزفون» الأمرين. كتبت عن زوجة أبيها: «ظل مشغولا باختيار مَن مِن النساء تناسبه بعد وفاة أمى حتى عثر على أكبر الكوارث، والتى استمرت معنا حتى ماتت وأماتته قبلها».
أما جرأتها فى الحديث عن خصوصيات المرأة، ومشكلات ذئب الجنس الذى يهاجم الفتاة مع بلوغها، فكتبت تقول: «من النادر أن أميز انفعالاتى أو أحدد مشاعرى، رغم شعورى الجارف بالاحتياج إلى رجل، رغم دموعى المنسابة بلا مبرر، رغم جذوة تشتعل فى جسدى دون أن أفهم لها معنى.. داخل كيانى كانت قصة أخرى. كانت هناك طاقة هائلة لا قبل لى بها تلهبنى بسياطها، تخبو حينا وتشتعل أحيانا، هذه النيران، كل هذه النيران لا تهدأ إلا حين يقترب منى رجل، وفى الحال أتحول إلى قطعة من الجليد، لست أفهم الغريزة الجنسية ولا ما تفعله بنا فى تلك السن المبكرة، وظللت زمنا طويلا على سوء الفهم ذاك حتى بعد الزواج». ما رأيك فى هذه الجسارة؟ إن لوتس تبوح وتشرح وتعلم.. وتمتع.
بصحبة الكبار
تغوص لوتس عبدالكريم فى نهر حياتها، فتتحدث عن زوجها عبدالرحمن العتيقى، وزير البترول الكويتى الأسبق، وكيف التقته، وكيف سافرت معه إلى بلدان الشرق والغرب حين كان دبلوماسيًا، وما رأته فى لندن وجنيف واليابان، وغيرها من المدن والدول، وتحكى لنا بلغة بالغة الرشاقة كيف تحصلت على الماجستير من لندن، وكيف تأثرت بالتطور العلمى الذى بلغه الغرب، ثم تعرج بنا نحو عشقها اللامحدود لعالم الأدب والفن والثقافة بشكل عام.
لقد أسست لوتس حين عودتها إلى مصر فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى مجلة «الشموع»، وكان شعارها «من أجل قيمة الجمال فى الأدب والفن والحياة»، وقد رأس تحريرها الكاتب الصحفى الكبير أحمد بهاء الدين، وأقامت فى فيلتها بالمعادى صالونًا ثقافيًا شهريًا دعت له كوكبة معتبرة من كبار مثقفى مصر ومبدعيها، نذكر منهم الموسيقار الأعظم محمد عبدالوهاب، ولويس عوض، وأنيس منصور، وإحسان عبدالقدوس، وأسامة الباز، وغيرهم، علاوة على إنشاء قاعة للفنون التشكيلية فى تلك الفيلا، وقد استضافت فى هذه القاعة أعمال الملكة فريدة - آخر ملكات مصر - التى توطدت بينهما أواصر صداقة متينة، إذ تقول فريدة: «اخترت لوتس صديقة لى لأنها فنانة ومرهفة المشاعر مثلى، ولأنها خبرت التعامل مع الطبقة المثقفة».
فى تقديمه لهذه السيرة الفاتنة يصف الشاعر الكبير أحمد الشهاوى بلغته الثرية لوتس هكذا: «إنها امرأة من برج نارى، هو برج الحمل، سطع نجمها فى سنوات قليلة بفضل جهودها فى مجال الكتابة والفن التشكيلى، ورعايتها طوال سنوات للفن والمبدعين، وهو شأن الطبقة الأرستقراطية التى كانت سائدة فى الحياة الثقافية والسياسية المصرية.. والدكتورة لوتس عبدالكريم شخصية نارها مشتعلة دومًا، مغامرة، حساسة وذات إيقاع روحى مختلف، نظرها بعيد، ورؤيتها عميقة، وطقسها مغاير، وعيناها مختلفتان، تريان ما وراء الأشياء، لها لغة خاصة فى التعبير عن بواطنها، تهتم بالموسيقى والغناء منذ طفولتها».
إن الدكتورة لوتس امرأة سويت من فطنة ورقة، لذا استطاعت أن تقدم لنا فى كتابها «رحلة البحث عنى» قطعة غنية صادقة من سيرة حياتها الخلاقة المتنوعة الآسرة، وقد صاغتها بلغة عربية رشيقة، فالعبارات حلوة، والفقرات متراصة بحصافة، ورائحة الصدق تفوح بين السطور، فإذا فتحت السيرة فلن تغلقها قبل أن تتمها!
شكرًا دكتورة لوتس.
لفن المناظر الطبيعية تاريخ عريق فى مصر والعالم، وكلنا يذكر اللوحات المدهشة لفان جوخ وجوجان فى القرن التاسع عشر حين تصدى الأول لرسم الطبيعة فى أوروبا، وانكب الثانى على تصوير الآفاق والمساحات الخضراء فى جزر تاهيتى.
أما فى مصر، فمنذ تأسست مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1908، ومعظم من تخرجوا فيها انفعلوا بالطبيعة ورسموها فى لوحاتهم، كل بأسلوبه، حتى صار لفن المناظر الخلوية أو الطبيعية عشاق ومريدون، فمنهم من يرسم ومنهم من يقتنى!
أما اليوم، فيفاجئنا الفنان الدكتور إبراهيم غزالة بالإقدام على مغامرة مدهشة، إذ سافر إلى جمهورية صربيا بأوروبا، حيث ظل طوال أسبوعين كاملين يتجول فى الشوارع ويرسم ما تصافحه عيناه كما أكد لى.
أكثر من 25 لوحة عرضها غزالة فى معرضه الذى افتتحه وزير الثقافة الدكتور محمد صابر عرب الثلاثاء الماضى 18/2/2014 فى قاعة الدبلوماسيين الأجانب بالزمالك، وقد كتب سفير صربيا فى مصر كلمة فى كتالوج المعرض أشار فيها إلى أن العلاقات الدبلوماسية بين مصر وصربيا بدأت فى عام 1908، «لاحظ أنه العام نفسه الذى أنشئت فيه مدرسة الفنون الجميلة»، وأن فنانى بلده مهوسوون بالفن المصرى بتاريخه العريق ومراحله المختلفة.
إذا قدر لك زيارة هذا المعرض الذى وضع له عنوان دال وهو «صربيا فى الهواء الطلق»، ستمنح نفسك فرصة ذهبية لتغسل عينيك، فغزالة تمكن بمهارة لافتة من اصطياد الأجواء العامة لصربيا، إذ اتخذ من الغابات والحدائق العامة والأنهار الصغيرة موقعا لجلسته، فيتأمل ما تراه عيناه وينقله إلينا بقلم الفلوماستر أو الألوان المائية فى حركة سريعة تغوص فى المشهد العام وتنتقى أفضل ما فيه، ليعيد صياغته فى لوحة بالغة المتانة من حيث التصميم، وضاجة بعلاقات لونية عميقة الثراء، الأمر الذى يجعل الرائى يشرب بعينيه الكتل والمساحات والخطوط فينشرح صدره وتبتهج روحه.
لم ينشغل غزالة بمطاردة التفاصيل الدقيقة فى المشهد العام، وإنما بحس ثاقب أدرك أبرز ما يميز المنظر الخلوى، فاقتنصه بخطوط قوية، جريئة، مستثمرًا براعته فى تخليق قاموس لونى غنى ومبهج، فنرى أنفسنا مشدوهين بالأحمر المشاكس والأخضر الهادئ والأصفر الساخن أو مبهورين بالبرتقالى المتوثب، والبُنّيات الساكنة التى تعزز حضور بقية الألوان من خلال ظلال قاتمة هنا، أو بؤر مضيئة هناك.
أشجار وأنهار وكنائس وبشر وآفاق وسماوات وأحلام وآمال كلها تتجلى وتتفاعل فى لوحات هذا الفنان المتميز، فنشعر كأننا سافرنا إلى صربيا، وأننا نعرف هذا البلد البعيد، وأن المرء المحظوظ هو من تتاح له فرصة التجوال فى الهواء الطلق بين شوارعها وأحيائها وغاباتها.
فى عام 1979 التقيت إبراهيم غزالة للمرة الأولى حين التحقنا معًا بكلية الفنون الجميلة بالزمالك، وأشهد أنه كان من أكثر الطلاب مهارة حتى تخرجنا فى عام 1984، وقد أكمل دراساته الفنية حتى تحصل على الماجستير والدكتوراه، وصار أستاذا لفن التصوير فى كلية الفنون الجميلة بالمنيا، كما أقام طوال مشواره الفنى الكثير من المعارض فى مصر وخارجها، حيث اقتنى أعماله عاشقو الفنون والمؤسسات الرسمية والخاصة.
إبراهيم غزالة.. فنان من ذهب، يمتلك خيالا خصبًا، ومزوّدًا ببراعة فى الرسم والتلوين، وها هو يطير إلى أوروبا لينقل لنا صورة صادقة تنبض بالحرارة وعشق الحياة حين جلس تحت أشعة الشمس يرسم صربيا فى الهواء الطلق.
عطر الاحباب.. أمير الانتقام.. فيلم كامل الأوصاف!..لوتس عبدالكريم.. امرأة من نار!.. إبراهيم غزالة يرسم صربيا فى الهواء الطلق!
الإثنين، 24 فبراير 2014 03:47 م
لقطه من فيلم أمير الانتقام
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة