فى الكلمة التى ألقتها وزيرة الخارجية الأمريكية، السيدة كوناليزا رايس فى الجامعة الأمريكية، فى مصر عام 2005، أكدت أن الأجندة الأمريكية فى المنطقة، كانت تقوم فى الأساس على استراتيجية الحفاظ على الوضع القائم واستمراره ضمانًا للاستقرار.
إلا أنه قد آن الأوان لتغيير هذه الأجندة، ومن ثم ستتغير السياسة الأمريكية حيال المنطقة، وبدلا من استمرار سياسة الحفاظ على الوضع الراهن فإنه يجب تغيير هذا الوضع من أجل خلق شرق أوسط جديد يدعم التغيير الديمقراطى فى المنطقة.
وقد بدأ التخطيط لهذا التغيير بمؤتمر عقد فى الدوحة العاصة القطرية، فى ذات العام تحت عنوان مستقبل التغيير فى العالم العربى، وقد تمخض المؤتمر عن نتيجة مؤداها التحالف القطرى الأمريكى الإخوانى غير المقدس لإحداث هذا التغيير. وقد اتبعوا فى ذلك استراتيجية التغيير السلمى لأنظمة الحكم القائمة على غرار ما حدث فى دول الاتحاد السوفيتى السابق فيما عرف بالثورات البرتقالية، وإحلال الإخوان محلها، وقد جرى إنشاء فرع لأكاديمية التغيير فى الدوحة لتدريب الشباب على عملية التغيير السلمى.
وقد تداعت الأنظمة المتهالكة المستبدة لنداء التغيير الذى أطلقته الجماهير التى احتشدت فى الميادين. ففر بن على بجلده من تونس فى أعقاب تفجر الأوضاع، ثم تداعت بقية الأنظمة بالسهر والحمى، فسقط مبارك فى مصر، والقذافى فى ليبيا، وعبد الله صالح فى اليمن، وما زال بشار الأسد يقاوم السقوط.
وليست مصادفة بحال قفز الإخوان على السلطة فى أعقاب السقوط مباشرة فى هذه الدول، كما أنه ليس مصادفة غض أمريكا الطرف عن الممارسات القمعية الباطشة التى مارستها الجماعة ضد خصومها السياسيين، كما أنها لم تنطق ببنت شفة فى مواجهة عمليات الإقصاء والتهميش لهؤلاء الخصوم. كما أن فمها قد امتلأ عن آخره بالماء فلم تمنح فرصة انتقاد انتهاك القانون والدستور وضرب مؤسسات الدولة وعلى رأسها مؤسسة القضاء.
كما أنها ليست مصادفة وبذات القدر حالة الخرس التى خيمت على منظمات حقوق الإنسان، وكأنها لا تنطق إلا بسلطان. وما كل ذلك إلا لاستتباب الوضع واستقراره والعودة إلى أجندة الحفاظ على الوضع الراهن القائم على الأرض واستمراره ضمانًا لاستقراره.
فلما تفجرت ثورة 30 يونيه فى مصر كانت المفاجأة الصدمة للإخوان والأمريكان والغرب جميعًا. لأن الدوائر السياسية ومراكز اتخاذ القرار ومراكز الأبحاث عجزت عن قراءة المشهد الحاصل فى مصر، وخابت توقعاتهم جميعًا. فما حدث لم يكن مجرد تظاهرات سرعان ما ستنفض، وإنما ما حدث هو ثورة، ومن فرط الصدمة وفقدان القدرة على استيعاب الموقف صنفوا ما حدث بأنه انقلاب عسكرى، على الرغم من تناقض ما ذهبوا إليه مع أدبياتهم السياسية فى تعريف الانقلاب وشروطه. ومن هذا المنطلق ذهبت أمريكا ـ وفى ذيلها الاتحاد الأوروبى إلى اتخاذ موقف تصورت أنه ضد الانقلاب، فى حين أنه كان ضد إرادة الشعب ورغبته، فأعلنت وقف المعونة العسكرية لمصر، وإلغاء مناورات النجم الساطع، وممارسة الضغوط الدولية على مصر حتى يرجع الإخوان. وقد جاء وقف المعونة فى وقت عصيب للغاية على مصر، فقد كان جيشها يجابه الإرهاب فى سيناء ولا زال، ويجابه إرهاب الجماعة ومن والاها فى ربوع مصر، فى نفس الوقت الذى تتدفق فيه الأسلحة ـ كمًا وكيفًا ـ من الجهات الأربع المحيطة بمصر إحاطة السوار بالمعصم، حيث إخوان ليبيا، وإخوان السودان، وإخوان حماس، وإخوان تركيا عبر البحر. وهنا استغل الرئيس الروسى فلاديمير بوتين الفرصة التى قد لا تأتى إلا لمرة واحدة، وهى الأخطاء الاستراتيجية للإدارة الأمريكية بوقوفها ضد إرادة الشعوب فى لحظات الحسم والاختيار، وأرسل رئيس المخابرات العسكرية الروسية إلى مصر، بخلاف الإشارات الإيجابية التى تلامس الوعى المتيقظ للشعوب فى لحظات المد الثورى.
وقد تبع ذلك زيارة وزيرى الخارجية والدفاع الروسيين، مع إرسال إشارات موحية من الجانب المصرى حيال أمر المعونة وقرض صدنوق النقد الدولى، وعدم الإكتراث بأمرهما، ولم تجر القاهرة كى تغسل شراك نعل راعى البقر الأمريكى طلباً للعفو والسماح كما كان متوقعاً ومخططاً له.
بل بادرت إلى رد الزيارة إلى موسكو على نفس مستوى التمثيل، وكانت مراسم الاستقبال موحية وذات دلالات لا تخفى على صانع السياسة الأمريكية. فقد أدركت واشنطن أن بوتين يبحث له عن موطء قدم فى مصر كى يعيد إلى العلاقة بها مجدها التليد مستغلاً فى ذلك التناقض الحاصل فى السياسة الأمريكية تجاه مصر والمنطقة.
وأن مصر لديها العديد من الخيارات المفتوحة وأطر الحركة الواسعة على الساحة الدولية.
ومن هنا جاء التحرك الأمريكى السريع عبر إرسال وفد من الكونجرس لزيارة مصر، ومقابلة المشير السيسى.
وكذا تصريح جون كيرى وزير الخارجية، أثناء زيارته لتونس عن رغبته فى زيارة مصر ولقاء قريب مع المشير السيسى. ومن المفارقات أن تتواكب زيارة وفد الكونجرس مع زيارة وفد عسكرى روسى للقاهرة. ومن هنا يأتى التساؤل حول الموقف الأمريكى الجديد: هل يمثل تراجعاً عن الأجندة الأمريكية لمصر والمنطقة أم أنها مناورة سياسية فى مواجهة الدب الروسى ؟. المشاهد أنه ليس تراجعاً عن الاستراتيجية الجديدة، وإنما هو موقف تكتيكى لا يخرج عن نطاق المناورة.
فأمريكا تعلم أن الجماعة التى تراهن عليها هى جماعة إرهابية، وجناحها العسكرى المتمثل فى حركة حماس مدرج على قائمة الإرهاب الأمريكية، وأن أمريكا لا تملك ترف التراجع عن دعم هذه الجماعة لسببين هما ـ الأول : وجود الإخوان فى معظم الولايات الأمريكية وسيطرتها على الجاليات الإسلامية بها من خلال منظمات المجتمع المدنى والمساجد والمراكز الإسلامية، والامتناع عن دعمها واعتبارها جماعة إرهابية سيخلق مواجهة محتملة بين الإدارة الأمريكية والداخل الأمريكى بما لاتحتمله أى إدارة.
الثانى: تورط الإدارة الحالية فى أنشطة مشبوهة مع الإخوان كدعم الإخوان لها فى انتخابات الرئاسة، ودعم الإدارة لأنشطة الجماعة بأموال دافعى الضرائب الأمريكيين، فلو تم الاعتراف بإرهابية الجماعة، وفضحت الجماعة الدعم المتبادل بينها وبين الإدارة الأمريكية، لأصبحت الإدارة الأمريكية إدارة داعمة للإرهاب، ويصعب عليها التعايش مع الناخب الأمريكى بهذه الصفة.
وبالتبعية ستصبح أمريكا دولة راعية للإرهاب على الساحة الدولية، ويسقط البعد الأخلاقى للقيم الأمريكية والغربية. الثالث : سقوط المشروع الأمريكى المتعلق بالشرق الأوسط الكبير والذى أنفقت عليه المليارات من جيب دافع الضرائب الأمريكى، الذى سيتساءل بالضرورة عن جدوى ما حدث وأهميته. ومن هنا يمكن القول بارتياح شديد أن أمريكا ماضية فى دعم الجماعة الإرهابية، وأن ما تقوم به مجرد مناورة للحيلولة دون تمدد الدب الروسى فى المنطقة من ناحية، وتخدير النظام المصرى من ناحية أخرى حتى يتسنى لها إفشال هذا التقارب المفاجئ.
أما الإدارة المصرية فليس أمامها سوى اهتبال الفرصة السانحة لتحرير إرادتها، وتوسيع رقعة علاقاتها بما لا يسمح باحتوائها من جانب طرف واحد يملك أدوات خنقها من جديد.
حسن زايد يكتب:الموقف الأمريكى بين التراجع والمناورة
الإثنين، 24 فبراير 2014 08:01 م
كوناليزا رايس وزير الخارجية الأمريكية الأسبق
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة