يمكنك أن تستخدم هذا العنوان كخدعة لفظية ساخرة، تضحك وأنت تقول لمستمعك الساذج: وهل هناك سمكة تغرق يا عبيط؟. وربما تمنحه دلالة سياسية كبرى وتضرب به المثل على تدخل الناتو العسكرى فى ليبيا مثلا، وربما تراه مفارقة مناسبة لإظهار فساد الإعلام المعاصر ليس فى مصر، ولكن فى العالم كله، وأخيرا يمكن أن يكون العنوان مفتاحا لفهم ما تذهب إليه فلسفات ما بعد الحداثة من شرح للعالم الذى نعيشه، وهو شرح يؤدى إلى الغموض والضبابية والسراب أكثر ما يؤدى إلى الوضوح، فهذه الفلسفات التى نشأت بعد انهيار الأيديولوجيا ودخول العالم مرحلة السيولة والهيولة، وبالنسبة لى أعتبر أن صيحة نيتشه عن «موت الإله» هى مفتاح هذا المسار التفكيكى الذى ماتت بعده الحقيقة، كما مات المؤلف، ومات النص، وأخيرا مات الواقع نفسه، كما أعلن الفيلسوف الفرنسى المثير للجدل جون بودريارد.
وكنت قد عرفت بودريارد فى مطلع تسعينيات القرن الماضى أثناء الجدل العالمى الذى سبق حرب الخليج الثانية. وكنت ممن يحكمون على الأمور بالمنطق والخبرة الذاتية فى مجال الفكر والسياسة، ورأيت أن التدخل الأمريكى المباشر ضد العراق يحمل نوعا من التهور والانحراف يجعل من تصريحات واشنطن مجرد تحذيرات شديدة اللهجة لن تصل بأى حال إلى التورط المباشر فى القتال، وقلت باللغة القاطعة التى كانت تحلو للسياسيين حينذاك إن أمريكا لن تتدخل، وإنها لو تدخلت فهذا يعنى أن كل ما أعرفه عن السياسة والاستراتيجية والتكتيك خطأ، وفى المقابل كانت هناك آراء واقعية تجزم أن واشنطت أعدت العدة وأنها سوف تحرر الكويت بنفسها، وفى مقدمة هذا الصف وقف الأستاذ هيكل وقال قولته التى أحفظها نصا حتى اليوم «إن الحرب بدأت، والقتال أغلب الظن واقع»، ومع تزايد احتمالات التدخل الأمريكى طالعت مقالا مترجما فى مجلة «استراتيجيا» التى كانت تصدرها مؤسسة أبوذر الغفارى البيروتية تحت عنوان «حرب الخليج لن تقع»، وكان المقال مأخوذا من صحيفة ليبراسيون الفرنسية بتاريخ 4 يناير 1991 لفيلسوف يدعى جون بودرياد أكد فيه بنفس لغتى القاطعة أن حرب الخليج لن تحدث، وعندما حدثت الحرب كتب مقالا ثانيا بتاريخ 6 فبراير 1991 تحت عنوان «هل وقعت الآن حرب الخليج؟»، وتلقفته الميديا بالأسئلة محاولة الحصول على اعتراف بأنه أخطأ فى تقديراته، لكنه فاجأ الجميع بعناد فلسفى وهو يرد السؤال بسؤال قائلا: «ومن قال لكم إنها وقعت؟» ثم كتب فى 29 مارس بعد انتهاء القتال وفرض الحصار مقاله الثالث بعنوان «حرب الخليج لم تحدث» وجمع مقالاته فى كتاب بهذا العنوان يذهب فيه إلى أن ما حدث ليست الحرب ولكنه شىء آخر تم تصويره وفق سيناريو مختلف يأخذ صورة الحرب كما قدمتها CNN وليس كما حدثت.
لم يكن بودريارد يحدثنا عن سطوة الصورة كما عرفناها فى كتابات رولان بارت، ولا يسعى لإدانة التضليل الإعلامى وكشف أكاذيب الدعاية على طريقة إدانة الغرب لمنهج وزير الإعلام النازى جوبلز، لكنه كان يضع أمامنا «جثة الواقع» ويحدثنا عن الحادث الذى أدى إلى موته لصالح وريث جديد «مصطنع» أكثر قوة وسطوة، هذا الوريث يمكن تسميته بـ«المشهد» كما أنبأنا عنه جى ديبور فى كتابه «مجتمع الاستعراض» وهى ترجمة لا تعبر عن العنوان الأصلى الذى تحتار فى العثور على ترجمة دقيقة لها حيث المقصود بالاستعراض هنا «المشهدية» أو «الفرجة»، لكن بودريارد يفضل تعبير «الاصطناع» ويوضح لنا أن الصورة كما قدمها رولان بارت كانت تعنى انتشار عصر الصور المأخوذة عن أصل واقعى، وهو ما يمكن تعريفه باستنساخ لوحة الموناليزا مثلا، حيث تبدو النسخة مأخوذة من أصل واقعى، لكن الصورة التى تهيمن على العقل العالمى الآن لا تتخذ من الواقع مرجعية لها، ولا تخترم حقائق هذا الواقع، لأنها صورة مصنوعة لا تنتمى إلا لنفسها، بل إنها تسعى إلى طمس الواقع وتغييبه فى متاهة من الصورة المصطنعة.
من هذه الصدمة بدأت تأهيل نفسى منذ سنوات لوداع العقل الأيديولوجى، وتربية «العقل المشهدى»، وبدأت أتعلم تحليل المشهد بشكل جديد ليس من قبيل التواطؤ على الصورة فى جريمة قتل الواقع، ولا استسلاما لتحليلات بودريارد التى لا ترى فى العالم حقيقة سوى الموت والفناء، وما عدا ذلك مجرد «لا يقين» وتخيلات مصطنعة تستطيع أن «تفبرك» بها المشهد الذى يروق لك، لكننى كنت ومازلت أحاول العثور على طريق للخروج من المتاهة بعد أن انطفأت أنوار الأيديولوجيا، وانهارت الطرق الممهدة تحت فيضان «العماء المعاصر» أو ما يمكن أن نسميه «الكاوس التكنولوجى» الذى يقدم لنا «الواقع الافتراضى» بشروطه وقواعده الجديدة (الأفضل أن نستخدم تعبير لا شروطه ولا قواعده) بدلا من الواقع القديم الذى يتعامل معه بودريارد كما تتعامل المدن الحديثة مع العشوائيات، ومع ثورة يناير تزايد إلحاح هذه الفكرة فى ذهنى، لأننى رأيت الميدان نموذجا مثاليا لفكرة «المشهد»، كما لمست أن هذا الفعل الجماهيرى الصاخب وما واكبه يعد تطبيقا حيا لمفاهيم وتجليات «ما بعد الحداثة» بتنوعاتها المذهلة التى تتصدرها الضبابية والسخرية ورواج الاجتزاء فى مواجهة انكماش التاريخ والسياق والسرديات الكبرى، بالإضافة إلى الذاتية المفرطة وتجاور التصورات المتناقضة، وانتصار الإعلام على الثقافة، وباختصار مرعب احتضار عالم قديم بتاريخه وذكرياته، لصالح عالم جديد مبهر وإن كنا نجهل من أين جاء وإلى أين يمضى بنا، لأنه عالم مفتوح، بلا تعريفات، ينكر الجغرافيا، ويحطم الزمن، فهو بلا حدود مكانية، وفى الوقت نفسه لا يرى الزمن كمسار يمتد بشكل خطى من ماضٍ إلى مستقبل لكنه بقع متناثرة تتجاور فيها التواريخ والأزمنة حسب قدرة الشخص أو الجماعة على استحضارها وتوظيفها.
وسط هذا الكرنفال المجنون يمكننا البحث عن إجابات جديدة لأسئلة قديمة تتجدد وتفرض علينا نفسها ليست فى أروقة البحث الهادئ ولكن فى سوق خرافى مزدحم بالهوس وصيحات الباعة بشكل عشوائى لجذب أكبر قدر من الزبائن بتنافس بغيض ومزايدات لا تتعرف بأى قواعد أخلاقية أو تنظيمية، وعلى سبيل المثال كيف يمكننا أن نعرف هل كانت ثورة 25 مؤامرة حقيرة من جماعة أرادت اقتناص لحظة مناسبة للانقضاض على السلطة؟، وهل كانت 30 يونيو انقلابا تم تصنيعه فى معمل مخابراتى وترويجه فى سوق الهوس الجماهيرى؟،
وكيف يمكن تفسير الموقف الأمريكى الداعم لجماعة الإخوان؟، وما هى حقيقة وحجم شبح الإرهاب؟، وما هو دور الإعلام فى هذا الواقع الضبابى؟، ولماذا تتم قراءة الحدث (حتى المشهد الموثق بالصوت والصورة) قراءات متناقضة يستخدمها كل طرف للإعلان عن بضاعته بصرف النظر عما كنا نسميه فى الماضى بالحقيقة؟
هذه بعض الأسئلة التى سأعرض عليكم ما توصلت إليه من إجابات لها فى مقالاتى المقبلة.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مجدى على
ضبابية غير متعارف عليها فى عالم ينضح بالانكشارية الهشة