"الله يرحم عبد الناصر كان ولد دكر.." جملة كنت أسمعها باستمرار من والدى كلما حلت بالبلاد أزمة طاحنة عجزت السلطة الحاكمة عن احتوائها، ونظرًا لحداثة سنى وقتها لم أكن أدرى ماذا تعنى هذه الجملة، وكيف تحول "عبد الناصر" الرجل "الصعيدى الشهم الجدع" كما يلقبه أهلنا الصعايدة إلى أسطورة مصرية وعربية، بل شخصية معروفة فى العالم كله.
أتذكر قريتى "شطورة" بسوهاج، عندما كان يباغت المرض أحد أقاربى فى ساعات متأخرة من الليل كنا نتجه إلى الوحدة الصحية الموجودة بالقرية، حيث يوجد طبيب الوحدة الذى يفحص جميع المرضى مع اختلاف شكاواهم، وكانت منطقة "المجمع" ـ كما يطلق عليها أهالى القرية ـ التى توجد بها الوحدة الصحية، تضم وحدة صحية كبيرة ومستشفى متواضع وقرابة 3 مدارس، وعرفت بأنها تأسست بقرار من الراحل "عبد الناصر" الذى أنشأ المجمعات فى القرى المصرية.
كان "مجمع" شطورة يمتد على مساحات واسعة لدرجة أن الوحدة الصحية كان أمامها ملعب "كرة" يمتد لعدة أمتار، حتى ذهبت ذات يوم سيدة مسنة تشكو لطبيب الوحدة الصحية من عدم الرؤية الجيدة بسبب تقدم عمرها، فوقف أمامها وأشار لها بأصابعه وقال لها: "كام دول يا حاجة" فأجابته، فطلب منها أن ترجع عدة أمتار، ونجحت فى الاختبار أيضًا، ثم طلب منها أن تبعد أكثر فى ملعب الكرة حتى وصلت لمنتصفه، فصرخ بأعلى صوته: "شيفانى يا حاجة" فأجابته: "نعم" فقال لها "على الطلاق أنا ما شايفك".
شاهدت لمسات "عبد الناصر" فى قريتى وأنا صغير السن، ولا أنسى دعوات المخلصين والمسنيين والمرضى لرجل رحل بجسده دون اسمه، ومرت الأيام وكبرنا وتعلمنا بمدارس القرية ثم التحقنا بالجامعات دون أن نكبد أسرنا سوى جنيهات معدودات، حيث كان التعليم بالمجان بفضل "ناصر"، فلولا قراره بالمجانية ما التحقت أنا ومعظم أبناء قريتى بالتعليم نهائيًا.
اكتشفت مع مرور السنوات أن مجانية التعليم التى أطلقها "عبد الناصر" تسببت فى وجود 260 أستاذًا جامعيًا و60 صحفيًا وأكثر من 250 طبيبًا وقضاة ورجال شرطة بقريتى الصغيرة.
وأن العظماء لا يموتون و"عبد الناصر" كان عظيمًا فى قلوب الناس فموعدنا معه فى جنات ونهر فى مقعد صدق عند مليك مقتدر.
