عامان مرا على رحيله، لكنه لا يزال حيًا بما تركه لنا من سخرية على كل شىء بخفة ظله التى ليس لها مثيل، تقرأ الآن ما كتبه قبل أن يتركنا وتصعد روحه إلى السماء، فتشعر وكأن له عينان تراقبنا من فوق، وعقلاً ينتقد، وقلماً يكتب ساخرًا، فتشك فى حواسك، هل مات جلال عامر حقًا؟!، فتأتيك الإجابة محيرة هو مات فعلا لكنه حيا بكلماته.
الساخر عمنا جلال عامر، امتلك قدرة غير عادية على التأثير إيجابيًا فى المجتمع، فكل عبارة كتبها لا تزال باقية تعبر عن مآسينا وأوجاعنا الحالية بطرافة غير معهودة، فلا نعرف حينها نضحك أم نبكى، فهو لم يترك مشكلة من مشاكلنا، أو ظاهرة طرأت علينا، إلا وسخر منها.
يقول الإخوان إن "السلطة لنا بالشرعية والصندوق" وعم عامر يقول "والذين يسألوننى لماذا أنتقد الذين يستغلون الدين يظلموننى فهم الذين يلاحقوننى على الإنترنت بدون مبرر حتى لو كتبت "الإلياذة" أو غنيت "زقزق العصفور صحانى" وما دمت كده "مذموم" وكده "مشتوم" فليسمحوا لى أن أصارحهم بأن الصندوق هو الوسيلة الوحيدة المتاحة الآن للاحتكام إليها، لكنها ليست معبرة عن الإرادة الحقيقية لشعب نصفه أمى ونصفه فقير ونصفه يخدع نصفه بشعارات الدين، وإذا كنتم قد غفرتم لفضيلة المرشد "طظ فى مصر" فلتغفروا لى "طظ فى الصندوق"، فهذا الصندوق قد يصلح لانتخاب مجلس تشريعى، لكنه لا يصلح لاختيار جمعية تأسيسية تضع دستوراً يحكم مصر نصف قرن، ولأن أولاد العميان يولدون مبصرين، يرفض ضمير هذا الشعب العظيم أن يقود أعمى من هذا الجيل مبصرى الأجيال المقبلة".
تدبروا أيضًا، ما هي مشاكلنا فى مصر، اليوم، "الإرهاب، سد النهضة، برامج التوك شو، السلطة، الغاز والكهرباء وغيرها"، ستجد لكل مشكلة قبل حدوثها، ردًا عند عمنا جلال عامر، فلنتأمل ما يحدث فى مصر من تفجيرات هنا وهناك من قبل أنصار جماعة الإخوان المسلمين ويذهب ضحيتها أرواح الأبرياء الذين لا ذنب لهم، فنتذكر ما كتبه عم جلال "اللى يحبنا ما يضربش نار عندنا، فاليوم هناك فريق غاضب مما يحدث وفريق غاضب ألا يحدث، فريق رومانسى قدم الروح، وفريق واقعى قدم المهر، فريق فضل أن يهتف للوطن، وفريق فضل أن يهتف للمرشح"؛ نشعر بعظمة هذا الشخص الذي كان يتوقع مسبقًا ماذا سيحدث.
ألم نرى أيضًا على شاشات التليفزيون أنصار جماعة الإخوان يهددون بتصعيد عمليات العنف وقطع الطرق وتعطيل المصالح الحكومية فيقول لهم كاتبنا الكبير ساخرا "أهل بحرى يعرفون كابتن "سيد" الذى كان يفرش فى الشارع ترابيزة "بنج بونج" يلعب عليها الأطفال مثلى، وعندما اتخانق مع أحد الفتوات ضرب له "الترابيزة" وأوقعها، فسأله كابتن سيد ببراءة "هية الخناقة معايا أنا ولا مع الترابيزة؟".
وهنا يضيف جلال عامر متعجبًا من أفعال هؤلاء "لذلك من حقنا أن نتساءل: هل الخناقة مع كابتن سيد أم مع الطريق والسكة الحديد والمدارس والمحاكم والنيل والقناة والمصالح الحكومية؟!؛ كنت طفلاً لا أملك عقول الكبار، ومع ذلك عندما كان يغضبنى كابتن سيد كنت أشتمه وأجرى دون أن أقترب من الترابيزة، لأنها المكان الذى أمارس فيه هوايتى ويأكل منه سيد عيش، فماذا حدث لعقول الكبار؟!.
وهنا يتجلى ذكاؤه فى الإٍسقاط فيقول "كابتن سيد لا يملك إلا ترابيزة واحدة، والمصرى لا يملك إلا وطناً واحداً.. تيجى نقسم القمر أنا نص وأنت نص، تيجى نكتب ع الشجر حرفين أسامينا وبس".
وكلامه عن "سد النهضة الإثيوبي" غاية في الطرافة والسخرية، إذ تجده يتحدث عن هذه الأزمة فيقول "شحنات كبيرة من الخراف تأتى من إثيوبيا ومن أوغندا ومن السودان، أرسلنا إليهم من يطلب الماء فأرسلوا إلينا من يقول ماء"، يقول أيضًا بلجهة تحدٍ واضحة "الذى جُرح على ضفاف "القناة" مستعد أن يموت على ضفاف "النهر" حتى لا تشرب مصر من البحر أو تستأذن "بوروندى" قبل أن تستحم.. وإذا كنا قد قبلنا "اللعب فى الدماغ" المقبل من إحدى الدول العربية فى آسيا، فبالتأكيد سوف نرفض "اللعب فى الحنفية" المقبل من أفريقيا، وأخطر قضيتين تتعرض لهما مصر الآن هما الوحدة الوطنية والأزمة المائية".
لم يغفل عامر أن يحدثنا عن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والتى من بينها إضراب الأطباء فى مصر الآن لرفع الكادر الوظيفى، إذ بحثنا عما قاله فى هذا الشأن فوجدنا يؤكد قائلا: "إن البناء الاجتماعى والاقتصادى لا يقل أهمية عن البناء السياسى، فلا يوجد مدرس يتظاهر من أجل تطوير التعليم، ولا يوجد طبيب يعتصم من أجل تحسين العلاج، وإذا لم نهتم بالبناء الاجتماعى والاقتصادى فسوف يظل البناء السياسى آيلاً للسقوط".
المدهش أيضًا أنه لم يتجاهل الإعلام وما يفعله من مفرقعات داخل خلايا مخ المواطن المصري فتعرضه للتشوه، حيث يقول ساخرًا منه "تحول التوك شو إلى "توك توك" يقوده مذيع مهمته توصيل طلبات الحكومة إلى المنازل"، وفى مقولة أخرى يقول "حتى الآن لم يستفد من الثورة إلا بائعو "الإعلام" وبائعو الأوهام"، ليتأكد كله بعد ذلك ونراها يتحقق أمامنا على شاشات التليفزيون.
بنظرة ثاقبة يتحدث الضاحك الباكى عن علاقة السلطة بالشعب المصرى، فينتقد فسادها التى تحاول تمريره بتغييب الشعب، فيقول "إذا أردت أن تضيع شعباً اشغله بغياب الأنبوبة وغياب البنزين، ثم غيِّب عقله واخلط السياسة بالاقتصاد بالدين بالرياضة" وهذا بالفعل ما تفعله الحكومات لتقوم بما تريده.
كما يوجه رسالة غاضبة أيضًا إلى الحكومات التي تقدم أسهل الحلول لتريح نفسها وترهق المواطن بغلق الشوارع في محاولة عاجزة للتصدى للمشاكل يقول عامر "الحل ليس بغلق الشوارع ولكن بفتح الحوار"، وهنا يوضح أن غلق الشوارع لن يحل شيئًا، وستظل المشاكل كما هى.
وبأسى عميق يرثى عمنا جلال عامر الشعب المصرى، بقوله "فى مصر الأرض للأغنياء، والبترول للأندية، والوزارة للوزير، والأنفلونزا للفقير!"؛ لكنه لا يقف عند هذه الكوميديا السوداء، فهو يحاول التخفيف عن المواطن المصري فيقول "المواطن العادى هو قبطان السفينة وإذا فقد التفاؤل ضاعت البوصلة، لذلك أدعوك أن تفرح وتبتسم وتتفاءل وتغنى "عقبالك يوم ميلادك لما تنول اللى شغل بالك" رغم الصور التى تراها على شاشة التليفزيون أو على علب السجاير".
عم جلال عامر نريد أن نسألك يا عمنا بنفس طريقتك الساخرة التى تعودنا عليه والتى نراها فى كل الأحداث الجارية ببلدنا مصر، يا عم عامر "قول الحق أنت مت ولا لأ".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة