ذات مرة استجبت لإلحاح طفلى الصغير واشتريت له قرصاً مدمجاً لألعاب الكمبيوتر شريطة ألا يبدأ اللعب إلا بعد الانتهاء من تناول الغداء، ووافق على الفور واشترينا اللعبة، وما أن عدنا إلى المنزل حتى فوجئت بالحاحه يتحول إلى ثورة حتى أسمح له بتشغيل القرص الآن، وفوراً! وأخيراً وحتى أتخلص من الصداع اضطررت أن أناوله القرص، فسألنى بلهفة:
أخبرنى إذن كيف ألعبها؟
فتطلعت إلى علبة القرص والنشرة المرفقة الطويلة المكتوبة بالانجليزية، وأخبرته إن علينا قراءة النشرة أولا حتى نفهم جيداً الطريقة المثلى للعب، فنظر إلى بريبة -ولا أريد أن أقول بسخرية- وكأنه يرانى "متفذلكاً" بشكل لا داعى له، فالمسألة فى نظره أبسط من هذا بكثير، لكنه أمام سلطتى كأب لم يسعه إلا أن يتركنى أفعل ما أشاء. ذهبت وأعددت فنجاناً من القهوة، وفتحت النشرة وشرعت فى القراءة. وأعترف أنه رغم بساطة الألعاب إلا أننى احتجت أكثر من ربع ساعة متواصلة فى القراءة المتأنية حتى أفهم بدقة جميع التفاصيل الخاصة باللعبة، بعدها عدت من الغرفة الأخرى، وأنا أصيح بابتهاج:
الآن فقط عرفت الطريقة المثلى للعب!
لكنى لم أكد أكمل الجملة حتى تجمدت من الدهشة: إذ كان ابنى يلعب بالفعل!
الشعوب تشبه الأطفال تماماً، فهى لا تعرف هذه الفزلكة الفارغة.. لا سيما الشعوب الذكية ذات العمق الحضارى كالشعب المصرى، ولا سيما أيضاً فى حالة الثورات. وهنا يتجلى الفرق بين المنظرين المتفذلكين والعامة. إننى لا أقصد بلفظ "العامة" هؤلاء الأميين أو من لم يتلقوا تعليماً جامعياً فقط، بل أيضاً أولئك المرتبطين أكثر من غيرهم بهوية مصر الثقافية ويعيشون فى الأحياء الشعبية والفقيرة والعشوائية والريف والصحراء، ونطلق عليهم "أولاد البلد".. هؤلاء هم عامة الشعب و"التيار الرئيسى" للشعب المصرى.
كما أننى لا أقصد بالمنظرين المتفزلكين شريحة المثقفين أبدا، فالنخبة المثقفة الحقيقية فى أى شعب تلتحم بتياره الرئيسى وتستقى معه من نفس المعين الثقافى للهوية الحضارية للوطن، وبالتالى فإن المثقفين الحقيقيين –رغم ثقافتهم الرفيعة- فهم فى غالبيتهم يشتركون مع عامة الشعب فى اختياراتهم بقصد أو غير قصد، ويدركون الحكمة الخفية المستمدة من العمق الحضارى لهوية هذا الشعب، وبالتالى يتبنون اختياراته ويدافعون عنها، وهو ما يصيب المتفزلكين دائماً بالصدمة وعدم الفهم، فى الوقت الذى ينظر فيه المتفزلكون إلى عامة الشعب بعين التعالى والاحتقار فيتخذون منه موقفا عدائياً أو انعزالياً على نحوٍ ما، فيعيشوا فى شبه قطيعة نفسية وثقافية مع عامة الشعب. وهذه الفئة تحديداً هى التى أقصدها عندما أقول "المنظرين المتفزلكين".. ويمثلهم فى الغالب نسبة لا بأس بها من أبناء الطبقة المتوسطة العليا، والعليا، من المتعلمين، وقد ضمت إليها بعض الأكادميين وأساتذة الجامعات ورجال الأعمال وكبار الموظفين والسياسيين وأسرهم. هؤلاء الذين يعيشون أو يحاولون العيش بطريقة أمريكية أو غربية على نحوٍ ما، وطالما حلموا بالهجرة إلى الغرب (وغالباً ما تجد أن هذا الحلم قد فشل لسببٍ ما!).. هؤلاء الذين يشعرون بالحرج عند التجول فى الريف والعشوائيات، ويتفادون عربات الدرجة الثالثة فى القطارات، ويقضى الواحد منهم وقتاً فى التأنق الفارغ قبل الإقدام على حضور حفل زفاف، فى الوقت الذى ربما ذهب فيه المواطن البسيط إلى نفس الحفل بملابس العمل!
إن هؤلاء المتفزلكين فى وادٍ وعامة الشعب فى وادٍ آخر! ولذلك فمهما رنَّت أصواتهم فهو رنين أجوف ومضلل، ولا يمكنه أبداً أن يعبر عن الصوت الحقيقى لأى ثورة، ذلك لأن هؤلاء المتفزلكين لا يعنيهم من أى تغيير فى المجتمع سوى محاولة التوصل إلى نمط وثقافة الحياة الغربية التى يبحثون عنها ولا يجدونها فيصطنعونها اصطناعاً..
هناك مثل مصرى يقول: "لا يشعر بالنار إلا القابض عليها" وهو ينطبق تماماً على ثورتنا.. التى، كأى ثورة، جاءت لرفع المعاناة عن كاهل عامة الشعب فى قطاعاته العريضة أساساً وليست ثورة المتفزلكين! لذلك فهؤلاء العامة وحدهم من لهم الحق فى تقرير مصيرهم. إن أبناء حضارة سبعة آلاف عام ليسوا جهلاء ولا أغبياء ولا يحتاجون وصاية من أحد، فهم قد صنعوا ثورتين مجيدتين فى أقل من ثلاث سنوات، وهم وحدهم من يعرفون معاناتهم، ووحدهم من له الحق فى اختيار من يهتف باسمهم: "الشعب يريد".. هذا الهتاف الذى لا يمنحه الشعب المصرى أبداً إلا لمن يعبر عنه فعلاً وليس لمن يتفذلك عليه أو يسفه اختياراته ويّسِمُها وأصحابَها بالجهل والتخلف كما يفعل هؤلاء المتفزلكون. لقد ناضلنا وبذلنا الدماء أجل الديمقراطية وتحرير إرادة جموع شعبنا حتى يتكلمون هم، لا من أجل أن تكمم أفواههم مرة أخرى ويفرض الوصاية عليهم المتفزلكون.
