لعلك عشت معنا ما عاشه كل المصريين عبر ثلاثة أعوام، اختلط فيه الحلم بالوهم، يوم ثارت طليعة هذا الشعب على تجريف مقدراته لأربعة عقود كاملة، وقعت مصر فيها فى الثقب الأسود فى هذا الكون، لم يكن الإنسان المصرى فيها ككل البشر متمتعًا بالحد الأدنى من حقوقه، حتى بلغ الغضب منتهاه، وامتلك المصريون القدرة على الحلم، وأزاحوا نظامًا فاسدًا مستبدًا عن صدورهم.. بالطبع لم تصل الثورة للحكم، وجرت تحت الجسر مياه رفعت الثورة شعاراتها المعبرة عنها.. «عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية»، لا تزال تلك الشعارات أحلامًا معلقة فى الهواء، ونصوصًا فى دستور أقره المصريون بأغلبية ساحقة، أنت كرئيس تأتى على واقع صعب ومعقد طرحته نتائج هذا الاستفتاء الذى مر الدستور من خلاله.
الشعب المصرى كما عكسته نتائج الاستفتاء منقسم إلى ثلاث شرائح:
الشريحة الأولى حجمها أربعون فى المائة، تعكسها أرقام من صوتوا فى هذا الاستفتاء، وإلى حد كبير صوّت هؤلاء على الدستور كما صوّتوا أيضًا على ما يعتقدون أنه البطل المخلص لهذا الوطن من أوجاعه التى لم تشفها الثورة، وهم فى ذلك يستدعون من التاريخ صورة زعماء مثلوا هذا الحلم فى لحظات تاريخية معينة، أنجزوا وفق سياق تاريخى مجموعة من الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية، بينما تخلفت إلى حد كبير إنجازاتهم فى مجال الحقوق والحريات والمشاركة السياسية، رغم إيمانى بأنهم أبناء أقدارهم، وأبناء سياق آخر مختلف، فقد حققوا فى كل الأحوال ما حفظ لهم مكانة مميزة فى العقل والضمير الجمعى لهذا الوطن، اتفقنا معهم أم اختلفنا، وفى كل الأحوال تبقى فكرة البطل المخلص فكرة من التاريخ تجاوزتها أمم تقدمت، ومازالت تعيش فى ظلها أمم أقل تقدمًا، مع الأخذ فى الاعتبار أنه بقيت حاضرة فى العصر الحديث مثلما جسد تشافيز أو لولا دى سلفا أمثلة تثبت القاعدة ولا تنفيها تلك الشريحة، يأسًا من الواقع، وحنينًا إلى بعض الماضى، خرجت لتصوت على الدستور وتصوّت معه على شرعية جديدة، يعتقد البعض أنها شرعية البطل المخلص.
الشريحة الثانية تمثل هى أيضا جزءًا من الماضى بُشر فى لحظة ما بمستقبل واعد ونظيف ومختلف، هى شريحة من يعتقدون فى الجماعة المخلصة، وأعنى بالطبع جماعة الإخوان التى كانت قبل شهور تحكم مصر عبر مندوبها فى قصر الرئاسة السيد محمد مرسى، ورغم فشل الجماعة فى حكم البلاد وتهديدها استمرار الدولة، وخروجها من الحكم بفعل حراك شعبى كبير فى 30 يونيو، انحازت فيه القوات المسلحة للإرادة الشعبية، كما انحازت لها فى 25 يناير، واحتشدت أطراف وقوى الدولة المصرية ممثلة فى القوى السياسية والأزهر والكنيسة، وطرحت خارطة طريق قضت بإبعاد الجماعة من الحكم، ومحاكمة بعض من أجرموا من قياداتها، هذه الجماعة التى قدمت نفسها للمصريين باعتبارها حركة إصلاح اجتماعى وأخلاقى، وتعهدت بأن تقدم نموذجًا فى الحكم يستهدى بأخلاق الدين والشريعة التى رفعت شعاراتها على نحو زاعق، دون أن يتجسد ذلك فى سلوكها فى الحكم كانت أم فى المعارضة، خاصة عندما خرجت من الحكم وهى ترفع شعار «علىّ وعلى أعدائى»، وعبر سلاح المظلومية مرة، وسلاح العنف مرة عبر جماعات وظيفية أخرى، مازالت تحاول العودة للمشهد، وهى تخوض معركة تعتقد أنها قد تطول مع الدولة المصرية التى أصرت على أن تبقى دولة وطنية خالصة، لا جزءًا من مشروع أممى كما كانت تريد لها الجماعة.. هذه الشريحة التى تمثل فى تقديرى عشرة فى المائة من هذا الشعب بأعضائها وأنصارها، هى شريحة نشطة مؤدلجة لا يصح النظر إليها من خلال حجمها العددى، إنما من خلال تأثيرها فى المشهد.. وأعتقد أن التعامل معها لا يصح أن يكون من خلال الحل الأمنى فقط، لأننا نتحدث عن أفكار تقمصها أفراد من هذا الشعب، وتربت عليها شرائح متنوعة من كل الأعمار، هى تعلن أنها ستبقى تناقضًا مع الدولة، وتروج أننا بصدد إنتاج دولة قمعية أمنية، هى صورة من ماضٍ ثار المصريون عليه ولن يسمحوا بعودته، خصوصًا مع بروز رموز تنتمى إلى ماضٍ كرهه كل المصريين، وهى عبر ذلك وعبر المظلومية تبنى شريحتها المصمتة النشطة.
الشريحة الثالثة التى تبلغ أغلبية هذا الشعب، وتمتلك طليعتها وعيًا عميقًا بدور مصر وبتجربة الدول التى نهضت، والتى تقلبت فى التغيير الاجتماعى بين ثلاثة أطوار، ما بين الطور الأول الذى اعتقد فى المهدى المنتظر، أو البطل المخلص أو المستبد العادل، ثم فى طورها الثانى الذى مثلته الجماعة المخلصة، عندما تصور البعض أن تأسيس كيانات حركية تذرعت بالدين أو الوطنية هى المخرج، ثم الطور الثالث والنهائى الذى تمثله طليعة هذه الشريحة المجتمع المخلص، المجتمع القوى المنظم المؤطر فى كيانات سياسية كالأحزاب، وكيانات مجتمع مدنى كالجمعيات والروابط والنقابات والمؤسسات الأهلية، هذه الشريحة هى عقل وضمير الأمة، وهى التى برئت من هيستيريا تدعى الصلة بالدين، أو أخرى تدعى الصلة بالوطنية.
الرئيس القادم مدعو أن يجعل عينيه مصوبة على تلك الشريحة، فى سلوكه وقراراته وسياساته، فلا ينخدع بشريحة البطل المخلص، يتملقها ويقربها وحدها، أو ينخدع بولائها وحدها.
إن صدق التوجه للمستقبل يعنى الانطلاق من كلمات مفتاحية وردت فى نصوص هذا الدستور الذى تم إقراره، هى الحقيقة والعدل.
فلتجعل الحقيقة والصدق رسولك للشعب، فتضعه فى قلب الحقائق ببيان واضح يقول أين تقف مصر مع لحظة تنصيبك، وإلى أين تريد الوصول بها، لا تعد بأنهار اللبن والعسل وأنت تقف فوق مستنقع من الطين، كن صادقًا سليم القصد، واجعل العدل ديدنك، والقانون والدستور سيفًا فوق رأسك، قبل أن يكون فوق رأس شعبك.
تعرف إلى الموهبة والكفاءة، ولا تجعل بطانة كل عصر تزين لك الباطل وضعف الكفاءة، ضع معايير عادلة لتقييم الناس تنطلق من القوة والأمانة «إن خير من استأجرت القوى الأمين».. بمثل هذه المفاهيم وغيرها من مفردات الشفافية والصدق تشق طريقك للعقول قبل القلوب.
وكن متأكدًا أن الشعب المصرى تغير، ولن يقبل سوى بالحق والعدل وشرعية الإنجاز، وإذا لم يتوسم فيك وضوح القصد، وسلامة التوجه فلن يصبر عليك طويلا، فجهز سهامك لمعركة البناء، وثق أن حكمة الشعب تفرق بين الحق والادعاء، وأن مشروعًا وطنيًا حقيقيًا لتحديث مصر هو نقطة الانطلاق، ولن ينجح سوى بتعبئة كل طاقات هذا الوطن التى إن استشعرت صدقك فتأكد أنها ستلبى النداء.
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة