د. محمد على يوسف

غدا الذى لا يأتى أبدا

الجمعة، 26 ديسمبر 2014 04:01 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"فُوت علينا بُكرة!!".. تلك العبارة التقليدية العتيدة التى تلخص بكلماتها الثلاثة نمط حياة ذلك الموظف البيروقراطى المقدِّس للروتين، والمتكاسل دوما عن إنجاز مصالح المواطنين فى اليوم نفسه.

بُكرة هى كلمة السر ومفتاح تلك الشخصية المتنطعة التى هى فى حقيقة الأمر تقبع فى أعماق كلٍ منا بنسب مختلفة.. غدا سأتغير.. غدا سأكون إنسانا رائعا.. غدا سأبدأ بداية جديدة ومختلفة تماما.. غدا سأُقلع عن كل تلك العادات السيئة التى تلازمنى.. غدا سأحل كل مشكلاتى وسأصلح كل أخطائى وأعوض ما فاتنى.. غدا سأُنزِل من وزنى الزائد وسأمارس الرياضة وأتبع حمية غذائية منضبطة.. غدا سأذاكر.. غدا سأصلى.. غدا سألتزم.. غدا سأتوب.. غدا.. دائما غدا.. هذا هو الشرط، غدا وليس أبدا اليوم، وغدا هذا لا يأتى قط!!.

لقد صار "غدا" لدى البعض سجنا كبيرا؛ سجنا قضبانه التسويف وأسواره الشاهقة ينافس ارتفاعها فقط طول أمله وبعد مسافة أمانيه، والحقيقة أن التحرر من هذا السجن ليس ترفا اختياريا أو مسألة تحتمل الأخذ والرد إنها قضية حياة.

• حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّى أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ" المؤمنون:٩٩،١٠٠
• "أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ" الزمر:٥٨
• "وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" الأنعام:٢٧
• "وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ" السجدة: ١٢
• "فيقول رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ" المنافقون:١٠

مجموعة كبيرة من الآيات تشترك كلها فى ترسيخ هذا المعنى المحورى وتلك الحقيقة المتغافل عنها، حقيقة ندم المسوِّفين وتحسرهم على تسويفهم، إنها آيات تبين بشكل قاطع أن ذلك السجن الذى اختار المسوفون المكث خلف جدرانه لم ينفعهم بشىء وأن غالب تحسرهم لما يأتى الغد الحقيقى سيكون على تضييعهم الفرصة حين كانت سانحة؛ فرصة التحرر من هذا السجن التسويفى البغيض "أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ"، هكذا كان دائما فحوى الرد على ندمهم وكذلك كانت الإجابة شبه الموحدة على تحسراتهم وطلبهم الفرصة بعد فوات الأوان قد عمّرتم طويلا ومكثتم فى الأرض سنين عددا وذُكّرتم وأُنذرتم وكان كل غدٍ يمر عليكم بمثابة فرصة جديدة أصررتم على تأجيلها كل مرة حتى لم يعد هناك غدٌ فى الدنيا وجاءت الأخرى فلم يعد ينفعكم الندم ولم يعد هناك (سوف) وغدا المزعوم الذى طالما تحججتم به لم يعد له وجودن غدكم الذى لا يأتى أبدا.

إنها مشكلة حقيقية نعانى منها جميعا بأقدار متفاوتة، وعلى جميع المستويات والمجالات.. مشكلة تظهر على صنوف متباينة من البشر ما بين عاصٍ مسوِّف يُرجئ أمر توبته لأجل غير مسمى، وطالب متكاسل يعلق آمال عريضة على أوهام اجتهاد سيهبط عليه فجأة، وموظف مماطل يدمن تعطيل مصالح الناس لـ(بُكرة) المزعوم، وسياسى (ملاوع) يسرف فى وعود وردية وأحلام مستقبلية موعدها دائما فى ذلك الغد الذى لا يأتى أبدا، وعلى قدر تمكن أحدنا من تجاوز تلك القضبان التسويفية، على قدر نجاحه فى تحقيق تلك الآمال والطموحات وقدرته على إثبات ذاته وإنجازه لشىء خلال تلك الحياة القصيرة، فقط إن كسّر تلك القضبان واعتلى تلك الأسوار.. قضبان سوف وأسوار (غدا).. غدا الذى لا يأتى أبدا.











مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة