جنى الحسن عن روايتها "طابق 99": سنصبح جميعًا بخير حين نقتل آباءنا

الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014 04:04 م
جنى الحسن عن روايتها "طابق 99": سنصبح جميعًا بخير حين نقتل آباءنا الكاتبة اللبنانية جنى فواز الحسن
حاورها بلال رمضان

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
• تلقيت عرضًا لتحويل "أنا، هى والأخريات" لعمل درامى أو سينمائى بشرط ألا أتدخل فى طريقة العرض فرفضت

• لبنان كرّم كل المشاركين فى مجرزة صبرا وشاتيلا وحاول طمر الجثث ولدينا شعب مغيّب ومحكوم عليه بالانقسامات والاختلافات لكى تبقى الطبقة السياسية مستمرة فى ممارساتها الاستبدادية والمخزية

• الروايات لا تعيد إحياء الأموات ولا تفى لأرواحهم حقّها والمجزرة حدث تنطلق منه الرواية ولا تقف كمدافعة أو كمحققة وما يهمنى إلى أى مدى يهرب الإنسان من حرب قام بها أسلافه

• القضية الفلسطينية تحتاج بعدما أثبتت الانتفاضات خيبتها وأصبح الداخل رهينة الانقسامات السياسية أن تسأل "ماذا بعد؟!" بشكل واقعى والإجابة يجب أن تأتى من الفلسطينيين ومن وحدتهم ليكون الهدف تشكيل قوة فعلية

• المجتمعات العربية بحاجة لتطوّر نقاشاتها وتثير الأسئلة وتفضى إلى أسئلة أخرى أو إجابات

• نحن بحاجة لنسأل وننتقد ذواتنا ونحاسبها لنتغيّر ونتأقلم لنرسى قيمًا جديدة ولهذا لم تنجح الثورات العربية فى إنتاج قوى جديدة وقيادات فاعلة حتى الآن

• وقعت رهينة لأشخاص "طابق 99" وكلما تحدثت مع قارئ جديد اكتشف جوانب نفسية فى الشخصيات وما يخيفنى هو فكرة الرواية التالية ماذا سأكتب الآن؟

بين عالمين، انتقلت الكاتبة اللبنانية جنى فواز الحسن، فى روايتين متتاليتين، قدمت فى الأولى صراع الأيديولوجيات والهويات المتشظية وذلك فى "أنا، هى والأخريات" التى وصلت للقائمة القصيرة فى جائزة الرواية العالمية فى نسختها العربية "البوكر" 2013، لتنتقل إلى عالم آخر، ملىء بالكثير من التساؤلات التى يرثها جيل ما بعد الحرب فى روايتها "طابق 99" عن منشورات ضفاف ودار الاختلاف.

حول هذه الرواية كان لـ"اليوم السابع" هذا الحوار..

• برأيك هل معنى أن يحمل الإنسان همًا فى داخله لذكريات "كارثية" أن يظهر ذلك للقارئ فى شكله الخارجى المتعلق بتشوهات جسدية.. فمجد الذى يحمل ذاكرة المجزرة رأيناه يحمل ندبة وعطبا فى ساقه؟

أحسبه دليلاً على عدم قدرة تجاوز الماضى والذكريات الكارثية. فى حالة "مجد"، الذى ربما كان أمامه خيار التخلّص من تشوهاته الجسدية ولم يقم بذلك، كان فى الأمر دلالة على أن ذكرياته السيئة لم تجد نهاية أو خاتمة ومأساته بقيت حيّة لأنّ قضيّته لا تزال كذلك أيضًا. التحرر من الماضى ليس خيارًا متاحًا دائمًا، حتى إن كانت النفس توّاقة إلى المستقبل، لأنّ الماضى لم ينته. كان يمكن لمجد أن يذهب إلى المستشفى ويتعالج وهو يملك الإمكانيات المادية لذلك، لكن أليس هناك ألف مجد غيره ممن يعيشون الشتات وبإمكانيات أقل.

الندوب الفردية كانعكاس للجرح الجماعى، الهوية الجماعية التى حفظها من خلال جسده، وهى هوية تعكس المعاناة. من الناحية الأخرى، طوّر مجد شخصية مختلفة عن حكايا الضحايا وشقّ دربًا إلى النجاح. كان بإمكانه إذًا أن يخلع الجرح عن قدمه، ويمضى بعزم أقوى إلى الأمام، بأن يصبح ندًّا لحبيبته الراقصة، لكنّه لم يستطع أن يتخلّص من الشعور بالمظلومية. وربما هو شعور محقّ.

يعيدنا سؤال الجسد هنا إلى سؤال الهوية، وسؤال الشعور بالذنب. الأب الفلسطينى مثلاً، الأستاذ المسالم فى الأونروا، انضم إلى القتال مدفوعًا بهويته الجماعية ومجد الابن شعر أنّه سيخون قضيته لو تخلّى عن تجلّى ألمها. كان يعاقب نفسه أحياناً، كأنّ الضحية تتحوّل إلى جلّاد نفسها. كان يحتفظ بجرح بلده ولم يفكر بزيارة فلسطين مثلاً. كل هذه التعقيدات والتناقضات تثير الأسئلة حول العلاقة بالذاكرة والمآسى والتحرّر والإرادة والمرآة والهروب وما يغلب الإنسان أو ما يتغلب الإنسان عليه.

• عندما كانت الرواية تدور حول نقد المجتمع جاءت بصوت الأنثى فى "أنا وهى والآخريات" لأنها الجانب الأضعف فى المعادلة.. بينما جاءت بصوت ذكورى فى "طابق 99" حينما تناولت ويلات المجزرة.. فلماذا تعمدت ذلك؟ فهل لهذا علاقة بالقضية أم أنها تقينات فنية؟

لا أعرف إن كانت رواية "طابق 99" تتناول ويلات مجزرة صبرا وشاتيلا فحسب، بل هى تحمل نقدًا اجتماعيًا أيضًا وتطرح أسئلة حول حرب مطمورة شاركت فيها أطراف لبنانية وفلسطينية ولكل منهما دور فيها. هذه الويلات هى مرآة لحياة ما بعد الحرب بالنسبة للأشخاص الذين تصيبهم شظاياها.

ألاحظ كثيرًا، وأنا أتحدّث مع أشخاص عاشوا الحرب أحيانا، حنينهم إليها. لا أستطيع أن أنسى أن أحدهم قال لى مرّة إن الأحوال الاقتصادية فى الحرب كانت مزدهرة بالنسبة إليه لأنه سرق ونهب كما يحلو له، وبالتالى كان له تمنّى بأن تعود هذه الأيّام. المقاتل أيضاً الذى يعتاد الدم ورائحة النار والبارود.. كيف تصبح هذه الأمور جزءاً من تكوينه. أى وعى تكوّن لدينا.. الجميع يتحدّث عن الحرب، علناً، بشعارات تنضح بالتعفّف ولكن هذا السواد كله جزء منا. هو موجود. نحن لا نختلق هذه الذكريات. السؤال أعمق من مجرّد القبول بالحرب أو رفضها، بل أيضاً بالتجربة وتفاصيلها. كلّ هذا يفتح الباب للنقد والتساؤل، على لسان كل شخصيات الرواية. فى "أنا، هى والأخريات"، كانت الاعتراضات موجودة أيضاً. ربما معظم النقد الإجتماعى يأتى على لسان الشخصيات النسائية لأنّ المرأة أكثر قدرة على المواجهة، حتى فى "طابق 99"، كانت هيلدا أكثر قدرة على التحديق إلى الذاكرة من مجد. فى "أنا، هى والأخريات"، كانت المرأة الأم أكثر استكانة للمجتمع وكان الأب من خلال سلوكه من يسجّل الرفض والاعتراض. لذا الأمور نسبية دائماً ومتعلّقة بالشخصية وتعقيداتها سواء كانت أنثى أو ذكر.

• وبرأيك هل تمكّن حب مجد وهيلدا أن يتغلّب على كلّ شىء؟ ولماذا قدّمت الحب فى تناقضاته بعيدًا عن الصورة الرومنسية؟

لا أؤمن بالحب كمخلّص ولا أؤمن بنمطية الحب. أظننا نهلك الحب بالتوقعات، عوضًا عن أن نجعله يحدث. أؤمن بأن الحب يجب أن يحدث تغييراً فى داخلنا، أن يغيّر فينا أمراً ما. هذا التفاعل بين اثنين، أن يحوّلهما. هذا الارتجاج الذى يحدثه دليل على وجوده. أذكر أيضاً أن أحدهم قال لى مرّة إن قصة حب كاملة قد تبدأ وتنتهى بنظرات قليلة. وجدتها فلسفة غريبة نوعاً ما، لكنى اليوم أصدّق أنّه ليس للحب شكل واحد وإطار محدد. كيف يمكن لنظرة أن تصنع قصة حب؟ يمكنها ذلك حين تحيى فى النفس احتمالات عديدة، وتجعل الإنسان يكتشف فى ثوانٍ جوانباً لم يكن يشعر بها فى نفسه. ويجب أيضاً الفصل بين الحب والعلاقة، أحياناً يكون الحب موجوداً وتكون العلاقة عصية على البناء أو العكس، العلاقة موجودة وما ينقص هو الحب. الحب، فى إطار العلاقة بين هيلدا ومجد، كان الحب مليئاً بالتناقضات والخوف وهو حب يظهر هشاشته وفيه تشكيك وأسئلة.

قرأ أحدهم الرواية واستنتج أن هيلدا هى التى تحب مجد وفى رأى آخر، كان هو الذى أحبها، وربما هناك آراء أخرى، كانا الاثنان متحابين أو كلاهما لم يحب الآخر بل أراد منه حاجة ما. أنا سأكتفى بالقول إنى لا أعرف، ربما هى ارتدادت الواقع تدمّر صورة الحب الرومنسى. أنا فعلاً لا أعرف، لذا تركت النهاية مفتوحة.

• ألا ترين أن هناك خفوتا لدور المرأة فى الرواية بما ينعكس على دور المرأة المناضلة فى القضية الفلسطينة؟

لا أظن دور المرأة خافتًا، الأم التى قتلت فى المجزة كانت رمز الوطن فيما بعد، حلم فلسطين الموعود. الزوج المفجوع حوّلها من امرأة مقتولة إلى وعد بالوطن. أمّك هناك، كان يقول لابنه، كأنّ الوطن هو المؤنث. كما أن دورها قبل أن تُقتل لم يكن خافتاً، كانت تجمع نسوة المخيّم وتدوّن طلباتهنّ وتحوّلها إلى زوجها إلى درجة أن قال لها أنّه سيحولها إلى "مختار" المخيّم. كانت لها آراؤها أيضًا، آراء لا تقلّ أهمية عن آراء زوجها. كلّ هذا نضال، نضال التفاصيل اليومية، وهو أصعب من البطولات. أن تحضّر امرأة الطعام لزوجها وهى تنتظره من دون أن تعرف إن كان سيعود، كل هذا يتطلّب قدرة هائلة على الاحتمال والصمود. حتى الخالة التى أتت لتنظف المنزل بعد المجزرة، أشار مجد إلى قوتها وصلابتها.

المشكلة برأيى، تكمن فى كيفية نقل هذه القوة النسائية من الشخصى والعائلى إلى العام والاجتماعي. عندها ربما، يحدث تغيير ما. أما مسألة غياب امرأة فلسطينية تتحدّث، فهو أمر لا يحمل دلالة مرتبطة بالنسيج الفلسطينى. لا أعرف أيضاً إن كنت، عن غير قصد، قد حصرت صورة المرأة الفلسطينية بالأمومة. الرواية تضيء على جزء وهذا الجزء أو النموذج ليس بالضرورة قابلاً للتعميم.

• لا يوجد أحد إلا ويدين مجزة "صبرا وشاتيلا"... ولكن والد "هيلدا" كافأته الدولة بمنصب وزير فى الحكومة الجديدة... فهل رأيتى أن لبنان كرمت المشاركين فى المجزرة؟

المسألة تتعدّى المجزرة.. لبنان كرّم كل المشاركين فى الحرب وحاول طمر الجثث، ولا يزال يحاول أن يفعل ذلك حتى الآن، لدينا شعب مغيّب ومحكوم عليه بالانقسامات والاختلافات لكى تبقى الطبقة السياسية مستمرة فى ممارساتها الاستبدادية والمخزية، ثمّ إن الإسرائيلى لعب دوراً فى المجزرة والعالم بأسره تركه يفلت. إنّه نظام عالمى هزيل، لا يستطيع أن يفعل الكثير للإنسان. وأنا لا أعرف إن كانت الطبيعة البشرية المحكومة بأعراف القوة. المسألة معقّدة ومتعلّقة بالظلم والقدرة عن الدفاع عن النفس. لماذا نجد دوماً، أو معظم الأحيان، الرديء والخسيس فى موقع سلطة بينما يكون الإنسان المتوازن والعادل والطيب فى موقع تهميش؟ إنها قوى الخير والشر تتحارب، وللأسف لا نجد يوماً انتصاراً للضعيف.

• بالتالى هل يمكننا اعتبار "طابق 99" إعادة إدانة وفتح تحقيق فى المجزرة؟

لا تعيد الكتب إحياء الأموات ولا تفى لأرواحهم حقّها. وأنا لا أقف كمدافعة ضد المجزرة أو كمحققة ولا قاضية تريد أن تدين. المجزرة هى حدث تنطلق منه الرواية، كحدث مفصلى فى حيوات فردية، وأيضاً تمتد للأحداث اللبنانية والصراعات الداخلية. أنا أسأل عن الحرب اللّبنانية، وإن كانت قد انتهت، وأسأل أيضاً عن مدى قدرة الإنسان أن ينفصل عن حرب قام بها أسلافه وإن كانت الفردية والتحرّر من كل الخلافات تشكّل نوعاً من العار. هل يحق لى مثلاً، كمواطنة من جيل ما بعد الحرب، أن أفصل نفسى عمّا حدث وهل يمكننى ذلك؟ وماذا نحتاج كمجتمع لكى نغلق صفحة الحرب؟ نحتاج إلى المواجهة طبعاً وإلا فنحن لن تتجاوز الأمر.

• ما بين ادعاء التعاطف العربى والعدائية للفلسطينين وعدم اعتراف العالم بحقهم فى التحرير وتقاعس فلسطينو الخارج عن حق العودة.. هل ترين أن الحل يكمن فى انتفاضة جديدة مثلاً؟

أنا لست فى موقع قرار ولا أى موقع آخر يخوّلنى أن أقول "تحتاج القضية الفلطسينية هذا ولا تحتاج إلى ذلك". وأنا بعيدة عن النسيج الفلسطينى الداخلي. لم أرَ حياة الفلسطينيين عن كثب. قرأت، سمعت، شاهدت التقارير على التلفاز، لكنى لم أكن فى صلب هذه الحياة، وهى لا تصيبنى بخسارات شخصية لكى أستطيع أن أحكم. يمكننا، سواء كان الدافع عروبتنا أو إنسانيتنا، أن ندعم القضية الفلسطينية ولكن لا يمكننا أن نلقى الخطب والأشعار وأن ننظّر ونحن لا نعيش وجعهم. لا يمكننا أن نقول لهم "قوموا وانتفضوا" وأن نحيّى بطولاتهم ونبكى لرؤية طفل يستحمّ بدمائه ونحن نشاهد. إنّها قضية ثقيلة جداً، حتّى على حامليها، وهى تحتاج الآن بعد أن أثبتت الانتفاضات خيبتها وبعد أن بات الداخل الفلسطينى رهينة انقسامات سياسية، أن تعيد السؤال حول "ماذا بعد"، بشكل استراتيجى وبراغماتى وواقعي. والإجابة يجب أن تأتى منهم هم، من الفلسطينيين، من وحدتهم، من رؤيتهم المشتركة. برأيي، هذا ما يجب أن يكون الهدف الأساسى الآن لتشكيل قوة فعلية. هذه القوة يمكنها أن تقود التحالفات الضرورية وتفاوض وربما تربح فعلاً.

• ما بين "أنا، وهى والآخريات" و"طابق 99" ثمة العديد من التساؤلات.. برأيك هل اللجوء إلى السؤال كتقنية فنية تعنى أن عالمنا العربى أسئلته أكثر من إجاباته أم تعبر على مدى الحيرة التى يعيشها المواطن؟

نحن بحاجة كمجتمعات تحاول التطوّر إلى نقاشات حيوية، والنقاشات تثيرها الأسئلة وتفضى إلى أسئلة أخرى أو إجابات. على الصعيد الشخصى أيضاً، أنا من النوع الذى يسأل ويبحث ويعيش فضوله ويدقّق ويحلّل، إلخ. حتّى الرواية تبدأ عندى من سؤال وحيرة. نحن بحاجة، إن كنا نريد أن نعبر إلى الأمام، أن نسأل وننتقد ذواتنا ونحاسبها ومن ثمّ أن نتغيّر ونتأقلم مع التغيير وأن نرسى قيماً جديدة. كل هذا يفعله التفاعل على مختلف الأصعدة، وهو غائب مثلاً على المستوى المؤسساتى العربى الحكومى والسياسي. ولهذا، لم تنجح الثورات العربية فى إنتاج قوى جديدة وقيادات فاعلة حتى الآن. ربما كل هذه التغيرات حولنا تدفعنا الآن إلى الأسئلة ومع الوقت إلى الخلاصات.

• والد مجد مختلف تماماً عن والد هيلدا. وهناك العلاقة بين الشخصيتين مع الأبوين. لماذا اخترت أن تقتل هيلدا والدها، بالمعنى المجازى طبعاً؟

سنصبح جميعا بخير حين نقتل آباءنا، لأنّنا بذلك سنتجدّد. والآباء هنا هم كل المفاهيم السابقة ورواسب الماضى. القتل هنا ليس قتلاً همجيًا، هو التشكيك والسؤال. فى أحيانٍ كثيرة، يتصرّف الآباء والأمهات كأنّهم يملكون الحقائق المطلقة ويستنسخون الأبناء ولو كانت نواياهم جيّدة. هذه ليست دعوة إلى التفكّك الأسرى، ولا إلى إنكار الجهود التى يبذلها الأهل فى سبيل أولادهم. أكثر ما قد يحرّكنى ويثير فى داخلى التعاطف هو منظر أب فقير مثلاً يعمل بجهد ليؤمن لقمة العيش لأبنائه. هناك فعلاً صورة ترافقنى لأب مجهول كان فى الطريق، ثيابه قديمة، يمسك يدى ولديه، يصطحبهما لمشاهدة مسرحية وهو يشترى لهما بضعة أشياء بمال يبدو أنه يملك القليل منه. هذه الصورة الحنونة للآباء تدفعنى إلى الحزن والفرح فى الوقت نفسه. لكن صورة الأب المتسلّط هى نفسها صورة المجتمع المستبدّ وهى صورة ينبغى قتلها، ليس رغبةً بالشر، لكن كى لا تصيبنا بالعقم.

ما أريد أن أقوله هو أن الأهل ليسوا المقدّس، وأنّه لا يوجد ما هو مقدّس، هناك آباء وأمّهات يستحقون احترام أبنائهم وآخرون يستحقون المحاسبة والمساءلة كى لا يكون الأولاد امتدادًا، كى يتمكّنوا من التحرّر.

• وهل تخلصت من شخصيات "طابق 99" بعد الانتهاء منها أم مازلت تعيش معك؟

لا، لقد وقعت رهينتهم. خلقت شخصيات وقعت فى غرامها وأخرى تعاطفت معها. لم يكن حالى كهذا فى "أنا، هى والأخريات". أذكر أنى حين فرغت من كتابة الرواية، شعرت بألم جسدى فى بطنى تماماً كما لو أنّى كنت فى مخاض. ذهبت إلى "كورنيش" بيروت للمشى واستمريت كذلك حتى الواحدة صباحاً كى أتخلص من القلق أو الحالة التى أصابتني. ولم أفكر بأشخاص روايتى السابقة بعد النشر. لكن حتى الآن، لا زلت أعيش مع "هيلدا" و"مجد" و"إيفا" و"ماريان" و"والد مجد" و"ماتيلد" و"جورجيو".

أردت، ولا أزال أريد، أن أمسك بيد والد مجد وأشدّ عليها وأن أحتضن جورجيو مثلاً وأمضى معه بعض الوقت وكذلك ايفا وأن أضحك معها. أنا عاجزة عن التعامل معهم كأنّهم غير موجودين، خصوصاً الشخصيات الرافضة والمعترضة.

ما أريد أن أشير إليه أيضاً هو أننى أكتشف فيهم جوانب لم أفهمها أثناء الكتابة. فهمت الآن مثلاً أن مجد مدّ يد المساعدة لقريبه كنوع من الانفتاح نحو ماضٍ كان يرفضه، وأستطيع الآن أن أتلمّس التغيير الذى حدث فى شخصيته. أكتشف أشياء جديدة عنهم حين يلفتنى قارئ إلى أمرٍ ما، وهم حتى الآن، لا يزعجونني. ما يخيفنى هو فكرة الرواية التالية. ماذا سأكتب الآن؟

• هناك سمة تغلب على شخصيات الرواية وهى أنها هاربة وتجمعت فى أمريكا وعلى مدار السرد كانت هذه الشخصيات تنتقد أمريكا بشدة؟

أعتقد أن أميركا كانت المكان الذى أعطى الشخصيات الهاربة شعوراً بالراحة كونهم غرباء. وهذه البلاد هى فعلاً مكان للباحثين عن فرصة أخرى، لكن يجب ألا يستسلموا لفكرة الحلم الأميركى كما فعل محسن مثلاً ويحاولوا أن يوهموا أنفسهم أنّهم فى الطابق 99 على قمّة العالم.

أنا أنتقد النظام العالمى فى كل ما يختصّ بالحرب، وأمريكا ضمناً. الجميع يقول إنه يرفض الحرب، ثم يشارك فيها. هذا النظلم قائم على حساب إنسانيتنا والجميع متواطئ. تجار الأسلحة والنفط وما إلى ذلك هى ركائز هذا العالم الجديد. تخيّل إذاً كم أنّه همجى فى عمقه.

• هل تلقيتى أية عروض لتحويل "أنا وهى والآخريات" أو "طابق 99" إلى عمل درامى؟

تلقيت عرضًا لتحويل "أنا، هى والأخريات" لعمل درامى أو سينمائى لكنّى رفضت لأنّ الشروط لم تناسبنى. كان من ضمن الشروط ألا أستطيع الاعتراض على طريقة تقديم العمل وهذا أمر مرفوض تماماً. الرواية ليست سلعة تباع وتشترى لتصبح عملاً سينمائياً أو تلفزيونياً منفصلاً عن المضمون الأصلى أو مسيئاً إليه.

لمعلوماتك
جنى فواز الحسن شاعرة وروائية لبنانية، تعمل فى مجال الصحافة المكتوبة والترجمة منذ العام 2009. نشرت نصوصًا أدبية فى دوريات ثقافية عدة منها ملحق "النهار" الثقافى وملحق "نوافذ". رشحت روايتها "أنا وهى والأُخريات" للقائمة القصيرة لـ"بوكر" العربية فى دورتها السادسة.


موضوعات متعلقة

"طابق 99" لـ"جنى فواز الحسن".. فخ الذاكرة وويلات صبرا وشاتيلا








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة