تبدو فى الأفق السياسى المصرى نذر انشقاق قادم، انشقاق بين ثورتين فمن يمثلون ثورة يناير يتوهمون أن ثورة يونيه ما جاءت إلا لمحو ثورة يناير وآثارها وثوارها، وقد ركبتها الفلول المباركية ومولتها ودعمتها إعلامياً بقصد إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل ثورة يناير وكأنك يا أبو زيد ما غزيت وهذا الفريق لو أضفنا إليه جماعة الإخوان وأتباعهم ومن لف لفهم ودار فى فلكهم فإن ثورة يونيه ما هى إلا مجرد انقلاب عسكرى على أوضاع شرعية قائمة فى محاولة بائسة لإعادة الحكم العسكرى إلى صدارة المشهد السياسى بزى مدنى، وبناء عليه فهم فى حالة خصام، قد يصل إلى حد الاحتراب، لو اقتضى الأمر ذلك، من أجل استعادة زمام الثورة من أيدى مغتصبيها حتى ولو تحالفوا مع الشيطان من أجل الوصول إلى بغيتهم.
ومن يمثلون ثورة يونيه يتوهمون أن ثورة يناير لم تكن ثورة بقدر ما كانت مؤامرة كبرى بين قوى داخلية وأخرى خارجية، بقصد هدم الدولة المصرية، انخدع فيها الشعب المصرى كما لم ينخدع من قبل، وأن الثورة الحقيقية هى ثورة يونيه التى انتفض فيها الملايين ضد حكم الإخوان على نحو غير مسبوق فى التاريخ البشرى، وهكذا نرى أن كل ثورة لها أنصارها ومريدوها ومنتفعوها الذين يصادرون على الثورة الأخرى حقها فى الوجود وفى الحياة، وكل فريق لديه أسبابه وأدلته وبراهينه وأحكامه المستمدة من المشاهدات الواقعية على الأرض لكلا الثورتين، وكلا الفريقين لم يأخذ بعين الاعتبار أنه لم يقم بالثورة بمعزل عن المجتمع المصرى الذى أعطى الأرضية والزخم لكليهما، ولولاه ما كانت ثورة ولا كان ثوار، فما كان لهذا الفريق أو ذاك أن ينتصر لثورته فى غياب المجتمع الذى هو العنصر الفاعل فى أى ثورة، ومن هنا يمكن توصيف هذا الانقسام بين الثورتين باعتباره انقساما قشريا أشبه ما يكون بالتشققات الفوقية التى تصيب سطح الأرض دون أن يكون لها مردود تصدعى على باطنها.
والقشور تمثل الطليعة الثورية فى كلتا الثورتين ويبقى السؤال قائماً فى الذهن، يمثل قلقاً وجدانياً يؤرق الشخص العادى، الذى لا ينتمى لأى من الفريقين، وإن كان قد شاركهما معاً فى كلتا الثورتين، أو شارك فى إحداهما دون الأخرى، أو لم يشارك فى أى منهما، أيهما ثورة، وأيهما مؤامرة؟ أنصار مبارك يرون أن ثورة يناير مؤامرة لأنهم قد ارتبطوا بهذا النظام بروابط عدة تباينات مشاربها، أولها أنه كان أحد المنتفعين من فساد هذا النظام، وآخرها من ألحقت به ثورة يناير ضرراً أو أذى لسبب أو لآخر، وبينهما قائمة طويلة من الروابط والاعتبارات، إلا أنه لا يكاد أحد يختلف فى مصر حول قضية الفساد فى عهد مبارك الذى تحول تدريجياً من فساد نظام إلى نظام فاسد، أى أن مبارك كان يدير فى أواخر عهده منظومة من الفساد تزاوج فيها المال مع السلطة زواجاً كاثوليكياً لا فكاك منه، وقد جرّف كل مناحى الحياة فى مصر إلى حد التصحر وتبديد كافة أرصدة القوة بما فيها القوة الناعمة التى تراكمت عبر سنوات فى المحيط الإقليمى والدولى.
لقد كاد أن يخرج مصر من المعادلة الدولية ويحيلها إلى دولة صفرية بحجم صفر المونديال الذى حصلت عليه مصر فى مجال الألعاب، وقد سبقته فى ذلك مجالات أخرى، وقد برز موضوع التوريث ليكمل دائرة السوء المباركى ساداً الأفق تماماً فى مواجهة أية فرصة أو متنفس للتغيير، نظام شاخ وتكلس وعجز عن الرؤية وفقد كل قدرة على الحركة حتى فى المحل للحفاظ على مستوى التدنى الذى وصلت إليه البلاد والعباد والشجر والدواب.
فكان طبيعى أن تنتشر فى مواجهته الحركات الاحتجاجية الفئوية وغير الفئوية بطول البلاد وعرضها، وما كانت هذه الحركات سوى تنفيس للبخار المكتوم فى القدر المغلق على غليان الماء به ويوشك على الانفجار والتشظى، صحيح أن هناك من ركب موجة الاحتجاجات ونفث فيها كى يزداد لهيبها استعاراً، وأن هناك من كان مدفوعاً بخلفيات تآمرية بقصد تحقيق أغراض خاصة سواء مادية أو سياسية إلا أن ذلك لا يعنى مطلقاً أن مبارك قد سقط فقط لمجرد تعرضه لمؤامرة خارجية تكاتفت مع عناصر داخلية أدت إلى سقوطه.
فمبارك قد سقط لأنه كان يستحق السقوط بجدارة، وكان يصعب على المجتمع تحمل استمرار نظامه بحال ومن هنا ثار المجتمع فى مواجهته وأسقطه دون أدنى أسف عليه هناك من يقول إنه لو استجاب لمطلب تغيير وزير الداخلية لما تصاعدت الأمور، ولو أنه عين نائباً له قبل الوصول إلى النقطة الحرجة لما خرج الناس ضده على هذا النحو، ونقول لمن يقول ذلك، أنه نظام عجز عن إدراك ما ذهبْتُ إليه، ودائماً ما كان يأتى متأخراً عدة خطوات عن مطالب الجماهير، لذا فهو كان جديراً بالسقوط. ومن هنا يصبح القول الفصل أن ثورة يناير هى ثورة بكل المقاييس العلمية المعتبرة، أما ثورة يونيه فهى كذلك ثورة فاقت كل التصورات فى الزمن الذى نضجت فيه، وفى الاحتشاد الجماهيرى غير المسبوق فى التاريخ البشرى الذى حدث فيها، أما ما يروج له الإخوان وبعض نشطاء ثورة يناير من أنها ليست سوى انقلاب عسكرى مغلف بجماهير مصطنعة على طريقة الفوتوشوب فهو أمر يجافى حقائق الأشياء، لأن أسباب الثورة كانت كامنة فى الفشل الإخوانى الذريع على كافة الأصعدة بما فى ذلك صعيد المشاركة وعدم الإقصاء للفصائل السياسية، وخلو الفعل السياسى لهم مما يمكن أن يحقق الإشباع المجتمعى لمجتمع عانى من التصحر لفترات طويلة.
فقد أخرجوا برلماناً أقرب إلى رياض الأطفال غاية جدهم اللعب، تفوق عليه البرلمان الصغير الذى كان يبثه التليفزيون المصرى من حيث الأداء السياسى فى تناول القضايا المجتمعية وأخرجوا مجلس شورى كان مرشحاً للإلغاء وفق المطالب الثورية، ومن ثم كانت نسبة المشاركة فى انتخابه لا تمثل سوى من خرج للانتخاب من جانب الجماعة وملحقاتها.
أما لجنة وضع الدستور فقد حدث فيها تحايل تآمرى من بداية وضع النص الخاص بالتشكيل، وانتهاء بالتشكيل الشائه من مجلسى شعب وشورى بقانونى تشكيلهما عوار بيّن، هذا بخلاف الإعلان اللادستورى الذى وضع ظهر مصر للحائط فى مواجهة استبداد الجماعة، وتبعه دستور يخدم أغراض الجماعة وأهدافها دون التفات لمصالح الشعب، ناهيك عن تصرفات الجماعة حيال المظاهرات الشعبية والمذابح التى أحدثتها لأغراض سياسية، وقتل النشطاء، واستهداف الصحافة والإعلام والقضاء والداخلية والمحكمة الدستورية العليا. وفى جملة واحدة: تخلص الشعب من نظام مبارك حليق اللحية ليحل محله ذات النظام باللحية والجلباب بذات أدوات وآليات الفساد فشعر الشعب بأن ثورته قد سرقت من فئة التحقت بها وركبتها بمساندة جهات خارجية ذات أغراض مشبوهة فكان لابد من استعادة الثورة بفعل شعبى عارم سانده الجيش تأميناً له ولإرادته الحرة فى الاختيار، إذن فهى ثورة تجاوزت ما يطلق عليه علماء الإجتماع الكتلة الحرجة إلى ما يمكن أن يسمى بالزلزال المدمر.
صحيح أن هناك ثلة من أتباع نظام مبارك ركبت الموجة الثورية ظناً منها إمكان إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، واستعادة آليات وأدوات ذات النظام المباركى بغطاء ثورى، وأنهم قد ارتدوا الأردية الثورية وركبوا ذات الموجة لاختطافها كما خطفها الإخوان من قبل إلا أن الشعب المصرى يعى ذلك جيداً، ومن ثم لا محل لاتهام ثورة يونية بالانقلابية على ثورة يناير، والتخوفات والهواجس غير المغرضة يمكن تفهمها ومصر بثورة يونيه أعادت ثورة يناير إلى القضبان الثورى المبتغى تمهيداً للانطلاق إلى الآفاق الأرحب.
