من ضمن شعارات ثورة يناير شعار «العيش» و«العدالة الاجتماعية» إلى جانب «الكرامة الإنسانية» و«الحرية»، وكل هذا لن يتحقق على الوجه الأكمل إلا إذا سار بلدنا بثقة وقوة على طريق «التنمية»، فمهما قيل من شعارات عن الحرية والكرامة فالحكمة تقول: «لا حرية لجائع ولا كرامة لعريان»، فمن يعانى من الفاقة لا يمكنه أن يكون حرا ولا مستقلا فى وجه السلطة، وتصبح كرامته مستباحة طيلة الوقت، وعيشه منكودا، ولذا دافع كثير من المفكرين عن «الديمقراطية الاجتماعية»، فى وجه طغيان الرأسمالية، ورأى كثيرون أنه لا ديمقراطية حقيقية بلا طبقة وسطى تدافع عنها، ولن يكون لهذه الطبقة وجود من دون تنمية، ولن نسلك تنمية حقيقية فى بلدنا الموجوع من الفساد الطويل، والرازح تحت ركام من الخراب المنظم، والمتطلع إلى أن يحقق الكفاية والاكتفاء، من دون أن نلتفت إلى قدراتنا الذاتية والكامنة.
ولا يمكن التعامل بجدية مع قضية «التنمية المستقلة» بكل تجلياتها من دون النظر بعين الاعتبار إلى «الخامات المحلية» بوصفها تمثل العصب الرئيسى لتلك الطريقة الاقتصادية، التى عادت تطفو على السطح من جديد مع عودة اليسار إلى سدة الحكم فى أكثر من بلد حول العالم، وباعتبارها كذلك أحد روافد «المخزون الثقافى» الخاص لأى أمة، والذى يعطيها ميزة نسبية، فى إطار التنافس الدولى على الأسواق، والتجاذب الإنسانى فى عالم القيم والأفكار أو المثل والمعانى.
ومع اتجاه دول كثيرة إلى تنشيط المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والتعويل عليها فى تعزيز القدرات الاقتصادية، يزداد بريق فكرة الاعتماد على «الخامات المحلية»، لاسيما أنها تنطوى على العديد من الجوانب والسمات الإيجابية والمحفزة مثل الوفرة، وامتلاك حصانة نسبية ضد تقلبات السوق الوطنية والعالمية، علاوة على الألفة النفسية التى تربط مختلف عناصر الإنتاج المتعاملة مع الخام المحلى، ووجود طبيعة تراكمية تمنع الصناع من العودة إلى نقطة الصفر فى كل مرة يتم فيها استخدام الخامات المحلية فى عملية التصنيع والإنتاج، خاصة فى ظل ارتباطها بالأنشطة الاقتصادية المحلية الأساسية والتقليدية للمجتمع، والتى تبدأ دوما بالزراعة والرعى، كما أن تشرب الخام المحلى لطبائع البيئة التى ينشأ فيها، يجعله متميزا فى مواجهة السلع المنافسة، وحاملا لخصوصية وتفرد تساعد كثيرا فى تسويقه، أو تقديمه إلى الناس على أنه رمز حضارى، مثل دور نبات البردى وزهرة اللوتس فى الحضارة الفرعونية، والنخيل فى الحضارة العربية، والغاب والخيزران والأرز فى كثير من الحضارات الآسيوية.
ومثل هذا التوجه يحتاج إلى إطار فكرى يقوم على عدة مبادئ أولها هو التعامل مع الخامات بوصفها نوعا من «الموروث الثقافى»، الذى يستحق العناية والرعاية، ويفرض ضرورة التمسك به، والتأسيس عليه، وتطويره ليتواكب مع معطيات العصر، وليس تنحيته جانبا، أو التحرج منه، أو النظر إليه بدونية، واعتباره عبئا على الحياة الاقتصادية الحديثة، أو التوهم بأنه حجر عثرة أمام التقدم، وثانيها هو النظر إلى المجتمع المحلى بوصفه بداية السياسة ومنتهاها، فمنه تنطلق السياسات العامة بمختلف صنوفها، وإليه يرجع عائدها، فى شكل سلع وخدمات وقيم وعلاقات. فالمواطن البسيط فى القرى والنجوع والعزب والدساكر يتصرف بوصفه جزءا من وطن كبير، وهو الدولة التى يعيش فى ربوعها، وينتظر من حكومة هذه الدولة أن تعمل على خدمته، وتوظف علاقاتها الخارجية من أجله، لأنها تستمد منه شرعيتها الحقيقية، بعيدا عن الشرعيات المجروحة التى تقوم على النسب والعصبية والتوظيف الأيديولوجى للدين والأساطير.
أما المبدأ الثالث فهو وجود إيمان عميق بأن الخامات المحلية هى الأقدام التى يقف عليها أى اقتصاد وطنى راغب فى بناء ذاته، وطامح إلى أن يشكل رقما فى الاقتصاد العالمى، وأنها الأداة التى إن أحسنت أى سلطة استغلالها تقى الدولة من براثن التبعية، وتحمى المجتمع من الاستسلام التام لمنطق السوق العولمية، بنزعتها الاستهلاكية المفرطة.. والمبدأ الرابع هو الاستفادة من أحدث التقنيات العالمية فى التعامل مع الخامات المحلية، لكى تدخل إلى عالم الصناعة من أوسع أبوابه، بدلا من الاكتفاء بتصدير الخامات الطبيعية إلى الخارج، لتعود إلينا فى شكل سلع، ندفع لشرائها أكثر بكثير من الأثمان التى قبضناها فى بيعها. أما المبدأ الخامس فيتمثل فى الحفاظ على الحرف التقليدية بشكل عام، باعتبارها جزءا من الهوية الوطنية، والعمل فى الوقت ذاته على تطويرها، بما يحميها من الضياع والاندثار تحت أقدام التطور الاقتصادى العالمى، الذى يزداد توحشا بمرور الأيام.. والمبدأ السادس يرتبط باستعمال الخامات المحلية فى تعزيز طريقة استنبات التكنولوجيا الذاتية، التى تبدأ بسيطة وخفيفة، ثم تنمو وتتعقد وتثقل، استجابة لتطور الصناعات التى تعتمد على هذه الخامات. وهذا يعنى تعميقا ذاتيا مستمرا لحركة التصنيع، بدلا من الاستسلام لخيار استيراد التقنيات من الخارج، وتحويل رجال المال والأعمال فى بلادنا إلى مجرد وكلاء للشركات العالمية الكبرى.
وحتى لا يكون كلامنا مجرد أقاويل نظرية لا تقف على قدمين، فهناك أمثلة يجب أن نضربها فى هذا المقام، كى تثبت الصورة، وترسخ الفكرة، وتتعبد الطريق إلى الهدف. ومن أجلى الأمثلة وأنصعها ما فعله المهندس المصرى العبقرى حسن فتحى، مخترع نظرية «عمارة الفقراء» الهندسية، التى تقوم على استخدام خامات البناء المحلية فى التشييد والعمارة، مؤسسا تحمسه لهذه الرؤية على منطلق اقتصادى ينبنى على زهد أثمان هذه الخامات مقارنة بمواد البناء الأخرى، وعلى منطق فلسفى يتأسس على أن الإنسان يتوق إلى أن يسكن بالقرب من أصله وهى الأرض، وبين جدران مشيدة من المواد نفسها التى خلق الله منها جسم أبينا آدم، قبل أن ينفخ فيه الروح، فيصير بشرا.
وهناك تجربتان فريدتان قام بهما مركز تنمية الصناعات الصغيرة، الأولى لتوظيف جريد النخل بدلا من الزان فى صناعة «الأرابيسك»، وبدلا من الخشب الأبيض فى صناعة ألواح «الكونتر»، وبدلا من الكازوارينا فى صناعة الخشب الحبيبى. فضلا على إنتاج قطع خشبية بمواصفات معينة، تضاهى مثيلاها المستوردة، وإنتاج قشرة من الجريد تضاهى الصلب متانة، لتستخدم فى صناعات عديدة.. وهذه التجربة احتاجت إلى إبداع ماكينات تشغيل وتجهيز خاصة، تحسن التعامل مع الطبيعة التكوينية للجريد، والتى تختلف عن نظيرتها فى الأخشاب، بشتى أنواعها. أما الثانية فتتعلق ببحث إمكانية استخدام حطب القطن فى تصنيع الخشب الحبيبى، بدلا من تبديد مئات آلاف الأطنان منه أثناء مكافحة دودة اللوز.
وفى مصر أيضا تقوم بعض المطاعم المحلية، التى تضاهى نظيراتها العالمية فخامة وتنظيما، بتقديم مشروبات محلية مثل «الدوم» و«الخروب» و«العرقسوس» بدلا من المشروبات الغازية المعروفة مثل البيبسى كولا وأخواتها. وتلقى هذه المطاعم إقبالا متزايدا، جعلها تنافس «كنتاكى» و«ماكدونالدز» و«هارديز» وغيرها. وربما يؤدى انتشار هذا النوع من المطاعم المحلية إلى التوسع فى الاعتماد على المشروبات الوطنية، بما قد يقود إلى تشييد مصانع لإنتاجها، وقبل هذا تشجيع زراعتها على نطاق واسع، ويعود بفوائد جمة على الاقتصاد الوطنى.
الطريق واضح لمن أراد أن يجعل من مصر «أد الدنيا» لتظل «أم الدنيا»، وبغير هذا سيظل هذا القول مجرد شعار يدغدغ مشاعر البسطاء دون أن يكون له ظل فى الواقع المعيش.
لمزيد من أخبار التحقيقات ..
"أنصار بيت المقدس" تعلن عن اختطاف وكيل وزارة القوى العاملة و3 قيادات نقابية بسيناء..وأبو عيطة: الإرهاب الأسود لن يثنينا عن استكمال خارطة الطريق.. ومؤتمر طارئ لاتحاد العمال غدا لبحث الأزمة
سياسيون يصفون توصية "المفوضين" بإلغاء عفو المجلس العسكرى عن الجهاديين بـ"الإيجابية".. ويؤكدون: تصحيح لجريمة ارتكبت فى حق الشعب.. ونبيل زكى: العفو فتح باب الإرهاب على مصراعية.. ودراج: جاء بضغط الإخوان
تفاصيل حادث مكتب مرور 26 يوليو.. مجهولون يلقون "قنبلة صوت" يدوية الصنع ويطلقون أعيرة نارية تجاه القوات دون إصابات.. وقيادات أمن الجيزة وخبراء مفرقعات ينتقلون لمعاينة مكان الواقعة.. ويؤكدون: لا تلفيات
د. عمار على حسن يكتب:«جريد النخل» بدل «الزان».. و«جاد» بدل «ماكدونالدز» لا تنمية حقيقية بغير الالتفات إلى الخامات المحلية
الأربعاء، 08 يناير 2014 05:18 ص
د. عمار على حسن<br>
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
A
ليتهم يقرؤن ....... على الأقل كبدايه
ليتهم يقرؤن ....... على الأقل كبدايه
عدد الردود 0
بواسطة:
مصري
افضل بدائل .......