فى لغتنا الدارجة أو العامية - وهى لهجة مصرية خالصة - كلمات وتعبيرات يمكن أن نعود إلى أصلها فى اللغة العربية الفصحى، ونجدها بنفس المعنى والدلالة، ولكنها تبقى فى «العامية» بمعنى وتأثير أقوى فى التوصيف والاستخدام اليومى واللحظى لشىء ما، ومن بين هذه الكلمات «لا مؤاخذه» التى أخذها المخرج الشباب عمرو سلامة عنوانًا ومعنى لثالث أفلامه الروائية الطويلة، بعد فيلمى «زى النهارده» «وأسماء» وهو مخرج مجتهد فى طرح أفكار تقلقه، ويكتب معالجتها بدرجة من الصدق لتصل للمشاهد ببساطة قد يراها من يريد العمق والتأمل تبسيطًا، ولكنه غير مخل!
يعالج فيلم «لا مؤاخذة» قضية مهمة وخطيرة وشائكة، هى التمييز بين المسيحى والمسلم فى المجتمع، من أين تبدأ؟!.. وكيف يصبح «الصمت» عليها دافعًا للاضطهاد، وربما الفتنة بعد ذلك؟!.. وعلى طريقة الأفلام القديمة، وبشكل تقليدى تمامًا، يبدأ الفيلم بصوت الراوى «صوت أحمد حلمى» الذى يقدم شخصيات الفيلم، وهذه الأسرة المسيحية التى تعيش حياة سعيدة وميسورة، وتعلم ابنها «هانى عبدالله» الطفل «أحمد داش» فى مدرسة أجنبية خاصة، وبسرعة تنقلب حياة الأسرة بعد وفاة الأب «هانى عادل»، وتجد الأم «كندة علوش» أنه من الصعب أن تستمر فى نفس المستوى الاجتماعى الذى تعيش فيه، فتترك منزلها وتنقل طفلها إلى مدرسة «حكومية» لعجزها عن دفع مصاريف ومتطلبات المدرسة الخاصة، وينتقل الطفل إلى عالم آخر تمامًا.
وهنا يتحول عمرو سلامة المؤلف والمخرج إلى أسلوب آخر فى المعالجة، حيث تصبح الرواية والرؤية لتلميذ الإعدادى الذى يحاول أن يفهم ما الذى يحدث حوله، وكيف يتأقلم مع هذا المجتمع الغريب عليه، ويزداد الأمر صعوبة عندما يجد نفسه «المسيحى» الوحيد فى الفصل، وظن الجميع أنه مسلم، لأن اسمه يتشابه مع أسماء المسلمين، فلا يعلن عن مسيحيته، لكنه يقاوم بشدة إحساسه بالاغتراب بين أقرانه من التلاميذ، فهو ابن لطبقة مختلفة، وثقافته وأساليب حياته وسلوكياته أيضًا مختلفة، فهو ابن مدير بنك، بينما معظم زملائه يمتهن آباؤهم مهنًا يقولون قبل الإعلان عنها كلمة «لا مؤاخذة»، مثل «ابن الصرماتى» مثلاً.
المهم.. ينجح الطفل فى التفوق بين أقرانه، ثم فى المواجهة بإعلان أنه مسيحى.. وتمضى الحياة!.. وتأتى قيمة وأهمية فيلم «لا مؤاخدة» أنه لا يقصر معالجته على مسألة التمييز بين المسيحى والمسلم، إنها تصبح قضيته الأهم: ما الذى جعل «هانى» يشعر بالغربة أو الاغتراب مع انتقاله للتعليم الحكومى؟!.. إن بداية التمييز تكون مع تعليم «الصغار» فى أى مناخ يدرسون وتنمو ثقافة سلوكهم؟.. من مدرسوهم؟!.. ما الذى يتركونه بداخلهم عن تعلمهم؟.. لماذا لا يقومون سلوك تلاميذهم، أليس هذا تعليمًا؟!
قدم عمرو سلامة قضية بصدق انفعالى ومشاعرى، جعله لا يفكر فى الخروج من «المدرسة» لنرى المجتمع الأكبر الذى جعل «المدرسة» بهذا الأداء التعليمى والتربوى المتدنى.. وعلى مستوى آخر قدم رؤية ترى أنه على من يشعر بالتمييز أن يقاوم، فالأم تقول للناظر «بيومى فؤاد» إنها لن تسمح بأن يشعر ابنها بالاضطهاد!.. أما الابن فهو أكثر إيجابية، فهو يرفض الهجرة، ويستخدم كل الوسائل «بما فيها الإنشاد الدينى الإسلامى»، حتى يتأقلم مع مجتمع يعيش فيه.
فيلم «لا مؤاخذة» عمل مهم يستحق المشاهدة، وهو يحقق متعة واستمتاعًا لمن يتابع أحداثه.. ولا تشغل نفسك كثيرًا: هل الفيلم اجتماعى أم كوميديا سوداء أم قراءة واقعية خفيفة الظل.