
السادس والعشرون من يناير لعام 2013.. لم يكن يوماً عادياً فى تاريخ الكرة المصرية.. الأنفاس تحتبس هنا وهناك.. والعيون والآذان كلها تتجه صوب مكان واحد.. مقر أكاديمية الشرطة بالتجمع الخامس، حيث تنعقد جلسة محاكمة "القرن الكروية"، المعروفة باسم محاكمة المتهمين فى مجزرة ستاد بورسعيد التى وقعت فى الأول من فبراير لعام 2012، وراح ضحيتها 72 مشجعا،ً من جماهير الأهلى فى مباراة فريقهم أمام المصرى البورسعيدى.

عام من الجدل والتظاهرات.. والمطالبة بالقصاص.. والتأكيد على براءة المتهمين.. انقسم الفريقان ليس فى ملعب كرة القدم.. وإنما فى ساحة الكرة المصرية بأكملها.. حتى بات الجميع فى انتظار محكمة جنايات بورسعيد تدلى بقرارها، بشأن تلك القضية التى باتت الشغل الشاغل لمجتمع الرياضة فى مصر.. كل ينتظر الحكم حتى يغنى على ليلاه، فرابطة ألتراس أهلاوى وأهالى الشهداء ينتظرون الحكم حتى يطفئوا ولو قليلا من نيران الصدور، ويجدون لصوتهم المطالب بالقصاص صدى، ورابطة جرين إيجلز المنتمية لنادى المصرى وأهالى المحبوسين، ينتظرون الحكم أملاً فى إظهار براءة ذويهم، والتأكيد على أن القضية – مسيسة – ولا دخل للمتهمين بها، وبين هؤلاء وأولئك تترقب منظومة كرة القدم المصرية الحكم أيضاً لا للقصاص أو للبراءة، وإنما من أجل عودة الحياة مجدداً لنشاط الكرة، الذى دخل مرحلة البيات الشتوى، بأوامر من الألتراس الذين وقفوا سداً منيعاً لفكرة عودة النشاط الكروى، على جثث زملائهم الشهداء.

"اليوم السابع" يرصد 4 مشاهد فى 4 أماكن مختلفة، خلفها حدث واحد توقفت عنده منظومة الرياضة المصرية بأكملها.. وقت أن أعلن المستشار صبحى عبد المجيد، رئيس محكمة جنايات بورسعيد عن إحالة أوراق 21 متهماً إلى فضيلة مفتى الديار المصرية، تمهيداً لتنفيذ حكم الإعدام.

عقارب الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً.. قاعة المحاكمة تكتظ بأهالى الشهداء، متشحين بالسواد، رافعين صور أبنائهم الذين قتلوا غدراً فى مدرجات ستاد لكرة القدم.. يدخل المستشار صبحى عبد المجيد، رئيس المحكمة والقضاة المستشارون، فتشتعل القاعة ضجيجاً، بدلاً من الصمت.. لم يعد بالصدور متنفس للصبر على منطوق الحكم.. وما إن نجحت هيئة المحكمة فى إلزام الحاضرين قليلاً من الصمت.. وسرد القاضى أولى كلمات منطوق الحكم، وحتى كلمة "إحالة أوراق كل من"، حتى تحولت القاعة إلى سرادق أفراح.. صرخات وتهليل وتكبير وأحضان مبللة بالدموع هنا وهناك.. بعد 360 يوماً بالتمام والكمال، أخيراً ستجف دموع والدة "أنس"، وستنطفئ نار فى صدر أم "عمرو ستيف"، ويتنفس والد "عمر محسن" الصعداء، لقد حان وقت القصاص العادل. أصدر القاضى حكمه بإحالة أوراق 21 متهماً إلى فضيلة مفتى الديار المصرية، لاستطلاع رأيه فى إصدار الحكم عليهم بالإعدام.

الساعة تدق معلنةً التاسعة صباحاً بتوقيت القاهرة.. ذلك هو الموعد المتفق عليه لتجمع المئات من رابطة ألتراس أهلاوى، أمام مقر النادى الأهلى الرئيسى بالجزيرة، بعد أن قرروا تغيير وجهتهم المعتادة، إلى مقر المحاكمة بأكاديمية الشرطة بالتجمع الخامس، ربما لحاجة فى نفس يعقوب سيقضيها بعد الاستماع إلى الحكم، ووفقاً لما سيكون عليه سيقضى ألتراس أهلاوى حاجته المنشودة، إما بإشعال نيران الغضب فى وسط القاهرة، والانتقام على طريقتهم الخاصة، أو بالاحتفال بالقصاص المنشود الذى لطالما قضوا من أجله مسيرات ومواجهات مع قوات الأمن ووزارة الداخلية وعناصر كرة القدم فى مصر، بل ولاعبى النادى الأهلى نفسه وإدارته، حينما سعوا لمنعهم من خوض مباراة السوبر المحلى، فجاء منطوق الحكم ليبشر بالخيار الثانى.. الاحتفالات امتلأت بها ستاد مختار التتش، والشماريخ أشعلت المدرجات، ليس لهز الشباك هذه المرة أو تحقيق بطولة، وإنما لإحراز هدف أسمى، إنه القصاص، هكذا تحول المشهد فى ملعب مختار التتش بالنادى الأهلى، الذى فتح أبوابه إلى كرنفال للاحتفال وأهازيج الفرحة.

قوات الأمن تتمركز حول محيط اتحاد الكرة.. الكل يخشى إعصارا من شباب يقفون على بعد أمتار من مقر الاتحاد، إذا ما لم يرق لهم الحكم، حتما سيتوجهون إلى مركز إدارة كرة القدم فى مصر، وستمسك نيران الغضب فى ذلك المبنى، جمال علام، رئيس الاتحاد الذى لم يكن قد مر وقتها على منصبه الجديد أكثر من 3 أشهر، وأعضاء مجلسه الموقر، كلهم يترقبون صدور الحكم، ليس لأجل القصاص أو لأجل بورسعيد، وإنما من أجل ضالتهم المنشودة التى عجزوا عن الوصول إليها منذ انتخابهم فى أكتوبر 2012، عودة الدورى الممتاز الذى تغنوا بقدرتهم على انطلاقه، وحددوا له مواعيد "مضروبة"، حتى استسلموا للأمر الواقع، منتظرين الحكم من أجل انطلاق مسابقة الدورى فى الثانى من فبراير 2013.. ابتسامات علت الوجوه وتهنئة حارة بين كل الأطراف بعد سماع منطوق الحكم.. الألتراس لم يعد له حجة لعودة الدورى.. هنيئاً لنا عودة النشاط.

لم يكن صباحاً، كأى صباح يشرق على محافظة بورسعيد.. فشمس السادس والعشرين من يناير لعام 2013، أشرقت بغيوم على المدينة الباسلة، تعداد أهالى المحافظة الصغيرة ليس بالكبير، من ليس له أحد المتهمين فى تلك المحاكمة، يعرف صديقاً أو جاراً له يعانى تلك المأساة منذ المباراة المشئومة، شاشات التلفاز كلها تضىء بنفس الصورة المباشرة لمشهد المحاكمة فى القاهرة، وموجات الراديو كلها ضبطت على تردد واحد يصدر صوت ضجيج القاعة وصرخة الحاجب: "محكمة".. نفس الكلمات التى أحالت العاصمة إلى كرنفال للاحتفال.. هى تلك الكلمات التى وقعت على مسامع أهالى بورسعيد كالصواعق، وأحالت أرض بورسعيد إلى مسرح لأحداث مشتعلة جديدة.. بعد محاولات أهالى المحبوسين اقتحام سجن بورسعيد العمومى وتهريب ذويهم اعتراضاً على الحكم الصادر، فتصدت لهم قوات الأمن، ما أدى إلى حدوث مجزرة، قُتل فيها ٣٢ شخصاً، وأصيب أكثر من ٣١٢ آخرين، ولم يكتف أهالى بورسعيد بالهجوم على السجن، بل حاولوا اقتحام قسم شرطة شرق بورسعيد ومحكمة بورسعيد، وأغلق مئات من ألتراس المصرى المنطقة العامة للاستثمار، وقاموا بمحاصرة المنطقة الحرة، وقطع أهالى بحر البقر طريق بورسعيد الإسماعيلية جنوب بورسعيد، وقام بعض مثيرى الشغب بإضرام النيران بمديرية الكهرباء.. لتشهد بورسعيد يوماً أسود فى تاريخها، انتهى بقرار من الرئيس المعزول محمد مرسى بفرض حظر التجوال فى المدينة الباسلة.

اليوم يمر عاماً كاملاً على تلك المحاكمة التى كانت كفيلة بإحالة القاهرة إلى سرادق أفراح، وبورسعيد إلى سرادق عزاء.. وبين هاتين الصورتين لا تزال الكرة المصرية تترنح ولم تسترد عافيتها حتى الآن، فلم تستمر مسابقة الدورى التى انطلقت بعد الحكم بأيام، ولم تشهد الكرة المصرية سوى بطولة محلية يتيمة أحرزها الزمالك فى نوفمبر.. فيما يبقى الدورى الجديد أيضاً مهدداً فى ظل الأحداث الأمنية التى تشهدها البلاد.







