كان الصديق الدكتور عمرو الشوبكى، الباحث والكاتب، وعضو لجنة الخمسين لتعديل الدستور، منصفا ومحقا عندما قال غير مرة إننا لا نقدم لمصر والمصريين «أفضل دستور فى العالم»، لكننا نقدم دستورا هو النتاج الطبيعى لمداولات حرة ومناقشات ديمقراطية ثم تصويتا خاليا من الضغوط منبت الصلة بأية أجندات خفية لهذا التنظيم أو تلك الجماعة، على عكس ما سبق أن قال به المستشار حسام الغريانى رئيس لجنة المائة لكتابة دستور الإخوان، الذى صدع الرؤوس بادعاءات «أفضل دستور فى العالم» و«دستور نباهى به الأمم»، رغم أنه لا يوجد شىء اسمه أفضل دستور فى العالم، حيث لا يمكن مقارنة نصوص جامدة معزولة عن سياقها التاريخى، ومنفصلة عن الواقع الاجتماعى الاقتصادى المختلف من دولة إلى أخرى، وكذلك كان المستشار الغريانى كمن يروج لبضاعة فاسدة يعرف على وجه التحديد مواضع الفساد فيها، ثم حدث أن سقط «أفضل دستور فى العالم» بعد ستة شهور، ليكون بذلك «أقصر دساتير مصر والعالم عمرا».
والحاصل أنه بعدما انقضى زمن الإخوان الأسود، وجد المصريون أنفسهم أمام استحقاق التصويت على مشروع دستورهم الجديد، وهو ليس «الأفضل فى العالم» لكنه «الأفضل وفق موازين القوى الراهنة»، فضلا عن أن الدستور (أى دستور وكل دستور) ليس كلاما منزلا من السماء لا يمكن الاقتراب منه أو المساس به، بل العكس هو الصحيح تماما، فالدساتير وُضِعت لتحكم مسارات المجتمع وتنظم العلاقات بين قواه الحية، ومن ثم فهى قابلة للتغيير والتعديل كلما طرأت مستجدات، سوف تطرأ بالضرورة بحكم التطورات وبمقتضى طبيعة الأشياء.
وعندما يتوجه المصريون لإبداء رأيهم فى الدستور الجديد، تقفز إلى مقدمة الذاكرة تجارب الاستحقاقات الانتخابية التى شهدتها البلاد بعد ثورة يناير 2011، وفيها الاستفتاء على تعديلات دستور 1971، الذى جرى بعد خمسة أسابيع من سقوط مبارك (19 مارس 2011) وقد كان حافلا بالدروس غنيا بالخبرات، التى تفرض نفسها –بوعى أو بدونه- على الاستحقاق الحالى.
فى ذلك الوقت – قبل أقل من عامين - تحول الاستفتاء على تعديلات دستورية إلى تذكرة لدخول الجنة لمن يقول نعم، أو معصية تلقى بصاحبها فى النار لمن يقول لا، فاستحال الاستحقاق الديمقراطى إلى فريضة دينية سرعان ما أصبحت «غزوة صناديق»، قسمت المجتمع إلى فسطاطين، وبدأت مسيرة التيارات الإسلامية نحو إقصاء كل قوى المجتمع، تمهيدا للسطو على السلطة واحتكارها، ثم الانفراد بالدولة وتفتيتها، وفى سياق موازٍ ومشابه حدث أن بعض أصوات فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الحاكم فى ذلك الوقت، حاولت تجيير استفتاء على تعديل دستور لصالح التسويف فى تسليم السلطة، وتطويل أمد الفترة الانتقالية فاعتبرت أن نتيجة الاستفتاء تمنح شرعية الحكم للمجلس الذى كلفه مبارك بإدارة شؤون البلاد، بعدما قرر التخلى عن السلطة (وليس قبلها)!.
شىء من هذا القبيل راح يطل برأسه على الاستحقاق الانتخابى الراهن، ليشوه المشهد ويفرغ الديمقراطية من جوهرها، بعدما تغيرت تذاكر الجنة والنار إلى تذاكر الوطنية والخيانة ليصبح التصويت بنعم هو عنوان الوطنية وغير ذلك دليل الخيانة، ثم امتد الخط على استقامته ليصبح التصويت على الدستور تصويتا على شرعية السلطة الحالية، التى يفترض أنها حصلت على شرعيتها من جماهير 30 يونيو – 3 يوليو 2013، وهى أقوى بما لا يقاس من أية شرعية أخرى، فيما بدا وكأنه محاولة بائسة لإعادة إنتاج هزيلة وهزلية لما سبق وفعله الإسلاميون والمجلس العسكرى السابق، بحشر مجتمع يموج بالتنوعات الثقافية والتباينات السياسية والاختلافات الاجتماعية، مرة فى فسطاطين، وأخرى فى معسكرين.
فى قراءة التفاعلات الخلفية والخفية التى أنتجت هذا الدخان الأسود ودفعته إلى مقدمة المشهد، لا يبدو لنا ما هو غريب أو مثير، حيث لم تزل التيارات الإسلامية، وفى القلب منها الجماعة الإرهابية، تلعب لعبة الكراسى الموسيقية مع نظام مبارك، وهما وجهان لعملة واحدة، فما أن سقط مبارك وترنح نظامه حتى تقدم الإسلاميون ليحتلوا مكانه ويجلسوا على مقعده، ثم تواصلت اللعبة وترنح الإخوان، فسارع رجال مبارك لاستعادة مقعدهم، وكلاهما يعتمد نفس الأساليب، أحدهما يوزع تذاكر الجنة والنار والآخر يحتكر صكوك الوطنية والخيانة، وتظل الثورة ضائعة بينهما طالما بقيت عاجزة عن تنظيم صفوفها وفرز قياداتها.
وكذلك نجد أنفسنا أمام مشكلة معقدة ومركبة، بوجوه متعددة، تلقى بظلال قاتمة على أجواء خريطة الطريق، دون أن تكون قادرة على تعطليها، منها – أولاً - أنه إذا كانت التيارات الإسلامية بعد تجربة حكم فاشلة، فى طريقها إلى الانتحار والاندحار، فإنها من ناحية تصر على حرق وتدمير كل ما يمكن أن تصل إليه يداها فى مرحلة احتضارها، كما أن هناك من ناحية أخرى من يحاول أن يمنحها قبلة الحياة لتبقى بين يديه ورقة يساوم بها أو فزاعة تبرر له النزوع نحو تقييد الحريات (إعادة إنتاج لأسلوب مبارك)، ومنها –ثانياً - أن مبارك لم يكن مجرد رئيس دولة أو حتى نظام حكم، بل أصبح بعد ثلاثة عقود فى السلطة أسلوب حياة وطريقة تفكير ومنهجا فى إدارة دولة، وبما يعنى أن مواجهة «فلول مبارك» لم تعد قاصرة فقط على رجاله ورموز حكمه، بل يجب أن تمتد وتتسع لتشمل مواجهة نمط تفكير وأسلوب حياة انتشر وتغلغل فى ثنايا البلاد كما فى تلافيف العقل الجمعى، وهى مواجهة لا تصلح معها الإجراءات الأمنية ولا الخطوات القانونية، إنما تستدعى بالضرورة تغييرات ثقافية اجتماعية عميقة وشاملة تطال نسق القيم السائد، كما أنها مواجهة لا يلمس أحد نتائجها إلا على مدى طويل.
ورغم هذه الغيوم وذلك الدخان، فربما كان بوسعنا أن نقدم قراءة أولية لنتائج الاستفتاء المتوقعة، حيث أعتقد بيقين أن الإقبال على صناديق الاقتراع سوف يتجاوز توقعات أكثر المراقبين تفاؤلاً، كما أن التصويت بنعم سوف يضرب أرقاما قياسية فى تاريخ الاستحقاقات الانتخابية المصرية، فى تأكيد شعبى جديد على تأييد خريطة الطريق المُعلنة يوم 3 يوليو 2013، ولعلنا نضيف إلى ذلك حقيقة أنه ليس كل ممتنع عن التصويت هو بالضرورة مُقاطع تلبية لدعوات الإخوان وذيولهم، حيث هناك فئة واسعة نسبيا مازالت تنتمى إلى «حزب الكنبة» لا تذهب إلى الصناديق كسلا أو إهمالا، أما المصوتون برفض الدستور، فظنى أن الجماعة الإرهابية سوف تراقب المشهد عن كثب، وعندما يصدمها حجم الإقبال الجماهيرى فسوف تدفع بأعضائها للتصويت –سرا- بالرفض، وبما يوحى –كذبا- بحجم معارضين كبير رغم مقاطعة الجماعة المزعومة، ومع ذلك بوسعنا أن نقول بضمير مستريح إنه ليس كل من يقول لا للدستور هو بالضرورة مؤيد للجماعة الإرهابية، أو متعاطف معها، والخلاصة أنه سواء شاركت الإرهابية فى التصويت أو لم تشارك، فإن نتائج الاستفتاء كفيلة بكشف حجم ما آلت إليه من هزال وفقر، ومدى ما قطعته من خطوات على طريق الاندحار والانتحار.
عند هذا الحد يمكن القول إن مصر سوف تشهد مرحلة جديدة نوعيا فى الصراع الذى فجرته الموجة الثورية الأولى فى يناير 2011، ومازال مستمرا حتى الآن، بين ثورة بلا قائد لم تزل تبحث عن تحقيق تطلعات شعب وتلبية مطالب وطن وتجسيد تطلعات مجتمع، وأبناء «مدرسة مبارك فى إدارة شؤون البلاد»، وفيهم بقايا وفلول التيارات الإسلامية، يتطلعون لاستعادة سلطة كانت و«هيلمان» ضائع، وفى السياق غنائم ومكتسبات مهددة بالزوال.
والراجح أن الصراع سوف يأخذ فى التصاعد بعد انتهاء الاستحقاق الدستورى، وربما يتسم بدرجة من الحدة فى الاستحقاق البرلمانى خصوصا، وإن كان من الصعب الاعتقاد أن اكتمال خريطة الطريق سوف يعنى بالضرورة حسم الصراع، إلا أنه سوف يدفع به إلى مقدمة المشهد، وقد ينقله من دائرة الكتمان، إلى نور العلن، ومن مرحلة الصراع الناعم إلى حالة الاشتباك الخشن.
للمزيد من التحقيقات...
لحظة بلحظة.. "نعم" تكتسح نتائج التصويت على الدستور بالخارج.. 98% من المصوتين بهولندا يؤيدون.. 97.3% فى لندن.. 99% فى روما .. و93% بموسكو.. 97.8 بالرياض.. و98.11% بجدة.. 98% بالجزائر..و97.5% بليبيا
وزير الداخلية يناقش مع مساعديه خطة تأمين الاستفتاء.. ويطالب بإنشاء غرفة عمليات مركزية.. إبراهيم: التأكد من توافر الأسلحة للتعامل الفورى مع أية اعتداءات.. ويشدد: الوطن يتعرض لهجمة شرسة داخلياً وخارجياً
خلال مؤتمر جماهيرى لدعم الدستور بقرية ناهيا.. عائلة الزمر تغسل يديها من جرائم طارق وعبود وتعلن التبرؤ من أفكارهما المسمومة.. وتؤكد: السيسى رفع رؤوسنا وسندعم الدستور كما طلب.. ولن نقبل بغيره رئيسا
الإخوان يواصلون التحريض ويدعون للتظاهر قبل الاستفتاء على الدستور.. استغلال عطلة المولد النبوى للحشد بعد قلة أعدادهم.. وأحمد بان: الجماعة تعانى أزمة فى اختيار عنوان للحشد بعد سقوط وهم الشرعية
هانى عياد يكتب:الاستفتاء على الدستور.. خطوة أولى على طريق طويل
الإثنين، 13 يناير 2014 06:47 ص