إذا كان للأمم على اختلاف أجناسها ولغاتها وألوانها، أعياد تفتخر بها، وذكريات تعتز بها.
فإن أعظم ذكرى نفتخر ونعتز بها، هى ذكرى ميلاد سيد الأنبياء وإمام الأتقياء وفخر الكائنات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
هذه الأيام وبالتحديد اليوم وقد ولد الحبيب المصطفى فى شهر ربيع الأول.
والربيع فصل من فصول السنة الأربعة امتاز عنها بتنوع ألوانه وجمالية وبهاء الخلائق فيه، وبتوازنه واعتداله، كما يبعث فى النفس الهدوء وراحة البال.
يوم عزيز على قلوب المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها، كيف لا وهو اليوم الذى منَّ الله فيه على البشرية بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ذكرى مولد النبى صلوات الله وسلامه عليه تجعلنا نعرض ما كانت عليه طوائف البشر كل البشر لا العرب فقط من صنوف الزيغ ووجوه الجاهلية من قبل، وما تمَ بيده الكريمة من سعادةٍ شاملة لمن تبع دينه ونورٍ وهاج يهدى إلى كل خير فى الدارين ويكشف صنوف الظلمات المتراكمة على أبصارهم وبصائرهم من عهد الشقاء والضنك الذى ليس بعده ضنك، وكل ذلك بيمن بعثته " صلى الله عليه وسلم " إلى كافة الناس بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
فى مثل هذا الشهر المبارك قبل أكثر من 1400 من السنين ولد سيد الأنبياء وصفوة المرسلين "صلى الله عليه وآله وسلم" بمكة المكرمة، فاستنار الكون بكل المخلوقات، بنور طلعته صلى الله عليه وسلم وضياء قدومه وجمال حلوله، وأشرقت الأرض كل الأرض بهذا النور الوهاج والقمر المنير حتى انقشعت الظلمات المتراكمة على هذا العالم، المتوارثة من القرون الهمجية المتوغلة فى الفتنة العارمة والجاهلية الجهلاء بشتى أصنافها وألوانها عقيدة وحكمًا وسلوكًا وفكرًا، فردًا وأمة.
وشهر ربيع الأول هو رمز ذلك اليوم السعيد المسعود، واليوم الذى لا ولن ينسى، ذاك اليوم الشاهد والمشهود، مولد فخر الوجود "صلوات الله وسلامه عليه" الذى كان مولده فصلا بين عهدين وبعثته فرقانا بين عالمين: ما قبل الرسالة المحمدية ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، وعهد البعثة الخالدة والرسالة العالمية المحمدية، التى كشفت الغمة وأذهبت الظلمة، ورفعت الحجب وهتكت الأستار وهدمت السدود المانعة من الوصول إلى الله وبناء حضارة العمران الإنسانى.
ومن استعرض ما كانت تعيشه البشرية عموما عربًا وعجمًا أذهله ما كانت عليه من جهل مطبق لما بعد الموت والمصير، وانطماس الأبصار والبصائر عن معانى الإيمان ومعرفة الخالق سبحانه.
ثم التناحر والاقتتال لأتفه الأسباب وشيوع الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتكالب القوى على الضعيف، والضعيف لا عون له ولا نصير، والظالم لا ناصح ولا قائم فى وجهه. والبشرية عموما فى غى وظلم: للنفوس فلا إيمان، وللغير فلا عدل. إلى أن ولد النور الذى بدد الظلمات، وأزال الحجب والموانع عن معرفة الله، وزكى النفوس، وطهر الجوارح، ووحد القلوب، وألف الأمم، وعلم البشرية ما لم تكن تعلم. صلى الله عليه وآله وسلم.
ولهذا وغيره نرى المسلمين شرقَا وغربَا طوال هذا الشهر المبارك مثابرين على الاحتفاء بذكرى ولادته ومطلع نور هدايته "صلى الله عليه وسلم "، والوقوف على سيرته والعكوف على أخباره، محبة لذاته الشريفة وشوقا للقياه وعرفانًا منهم لما فاض عليهم من نور هدى طلعته الميمونة، وما تنزل عليهم بسببه من الرحمات والبركات واعترافًا وامتنانًا لما عاشوه ويعيشونه من معانى السكينة والاطمئنان والإيمان والتطلع لمقامات القرب من الله تعالى والسعادة الأخوية الإنسانية بعد ظلمة متراكمة وزيغ متواصل وضلال ليس فوقه ضلال، حتى تبدلت الأرض غير الأرض والقلوب غير القلوب وعاد الإنسان إلى أصله ومبتدأ أمره يتطلع إلى حسن خاتمته وجميل خبره بعد انقطاع أثره وانمحاء أثره إلا من الثلاث الباقيات.
كما وصفها الحبيب المصطفى " صلى الله عليه وسلم " «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له»
قال الله تعالىَ: قدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. يقول الإمام الطبرى فى تفسير الآية: يعنى بالنور، محمدًا صلى الله عليه وسلم الذى أنار الله به الحق، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به يبيِّن الحق.
جمع صلى الله عليه وآله وسلم القلوب التائهة على الله سبحانه وعرف الأرواح ببارئها، ورقَّى بنورانية قلبه وصفاء سره ونقاء جوهره الأرواح إلى أعلى درجات الطهر، وبلين عشرته وطهارة مخبره وحسن كلامه وأدبه الرفيع زكى النفوس حتى أطمأنت فاستجابت لنداء الله الآمر الناهى.
يأتيه الكافر جاحدًا ويخرج مؤمنًا صادقًا.
يأتيه الرجل مجادلا معاندا فينظر إلى وجهه الشريف قبل محاورته ومناظرته فيرى صدقه على وجهه قبل أن يستمع لصدق كلامه فيقول الرجل: والله ما هذا بوجه كذاب فيسلم. وعن عبد الله بن سلام قال: "لما قَدِمَ النَّبِى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ، وَقِيلَ: قد قَدِمَ رَسُولُ " اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، ثَلاثًا، فجِئْتُ فى النَّاسِ لأَنْظرَ، فلمَّا تَبيَّنْتُ وجْههُ عرَفتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ. فكان أوَّلُ شىء سمعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ"، فدنوت منه وشهدتُ أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدا رسول الله، فالتفتَ النبى عليه الصلاة والسلام وقال: "ما اسمك؟" فقلتُ: الحصين بن سلام، فقال عليه الصلاة والسلام: "بل عبد الله بن سلام"، قلت: نعم عبد الله بن سلام، والذى بعثك بالحق ما أُحبُّ أنّ لى اسمًا آخر بعد اليوم... الحديث"
أخرج الإنسانية من ظلمات الجهل والخرافات إلى نور العلم وجمال المعرفة وسداد القول وقول السداد، وجعل شعار "اقرأ" شعورا وممارسة، حتى سادت الأمة الإسلامية العالم. ويقول أحد ملوكها مخاطبًا سحابة ممطرة: أمطرى حيث شئت فخراجك سيصل إلى.
فى مولده، أعتقت امرأة: ثويبة جارية أبى لهب عم المصطفى " صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تأتى سيدها مبشرة بولادة ذكر لبنى هاشم بن أخيه محمد بن عبد الله فيعتقها أبو لهب من ساعته. ويكون أول لبن يصل إلى جوفه الشريف صلى الله عليه وسلم من ثدى هذه الجارية. وفى هذا معنى وهو أن هذا المولود سيحرر النساء من القهر والظلم والجحود الممارس عليهن فى العصر الجاهلى.
كانت المرأة فى العهد الجاهلى عرضة الغبن والظلم وقهر الرجال والمجتمع، تقتل وهى صغيرة، وإن بقيت حية فمسلوبة الحقوق، لا حق فى مالها، ولاحق لها فى مال زوجها المتوفى أو أبيها الميت، بل كانت تعتبر متاعًا فتورث كما يورث المتاع.
وجاءت رسالة الإسلام فحفظت كرامتها، وصانت حقوقها. قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ. وقال محرر النساء "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ": "إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ" وعند موته يوصى بالنساء خيرًا، وفى حياته يعطى النموذج والمثال فيقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي"
وإذا كان الربيع شهر الانشراح والسكينة، فقد ولد الهادى لنشر معانى راحة القلوب، وسكينة الأرواح، وطمأنينة الجوارح. فكل ما جاء به إنما لتحقيق ذلك.
يقول مولانا سبحانه وهو يحدثنا عن مقومات صحة النفوس وركائز بناء الحياة الطيبة المحققة لسعادة الدنيا والآخرة، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
كل الطاعات والأوامر التى جاء بها الحبيب صلى الله عليه وسلم وإن كان فيها جهد وعنت وكلفة على النفس، فإنها مع المداومة والإلحاح تترك فى القلب انشراحا وفى النفس سكينة وهدوءا وفى الروح رقيا ومعراجا. والمشقة تجلب التيسير.
مولده كان بشرى لثويبة الأَمة وبشرى للأمة جميعا، فكانت أمته خير الأمم خفف الله عنها، وشرفها لشرف نبيها، وما كتبه علماء الأمة من ميزات الأمة الإسلامية وما خصها المولى من كرائم وفضائل وتشريفات فلا يعد ولا يحصى. وارجع إن شئت إلى كتاب الخصائص المحمدية للسيد محمد بن علوى مالكى ففيه ما يغنى. وأذكر قطرة من فيض من غيض من بحر ليس إلا.
قال تعالى: "لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ".
كل عام وأنتم بخير.
عاطف البرديسى يكتب.. مولد الرسول ربيع القلوب فى كل الأعوام
الإثنين، 13 يناير 2014 10:07 ص