دائما يسأل الصحفيون عن وضع الثقافة ومستقبلها وموقف المثقفين. هذا السؤال الذى صار يتردد فى مصر منذ قيام ثورة يوليو 1952 بعد أن صارت مصر تحت يد حكم جديد رفع شعارات العدالة الاجتماعية والديمقراطية، ثم ما لبث بسرعة أن تخلى عن شعار الديمقراطية، وصار شعار العدالة الاجتماعية هو الوحيد تقريبا، وتقدمت فيه البلاد بحق تحت الحكم الناصرى، لكن جرى ما جرى من سجون ومعتقلات لذوى الأفكار المناهضة حتى جاء أنور السادات ورفع شعار الديمقراطية، وبدأ فى تدمير العدالة الاجتماعية، وهو يرفع شعار الانفتاح الاقتصادى، ولم يحقق الديمقراطية إلا شكلا، وجاء مبارك فمشى على نهجه لكن فى صمت وهدوء، ووصل بالهدم فى الناحيتين إلى أعلى درجاته، فقامت ثورة يناير. صرنا فى فترة مخاض طويل نتفق أو نختلف عليها، لكن المؤكد أنها لم تصل إلى تحقيق هذه الشعارات وأمامها طريق طويل.
نعود إلى السؤال الثقافى فنجد على الفور الإجابة بأن هناك منجزا ثقافيا كبيرا تم فى الحكم الناصرى، سواء فى إنتاج الكتب والمجلات أو بناء أكاديمية الفنون أو ظهور فرقة الموسيقى الكلاسيكية وفن الباليه والإنتاج السينمائى والمسرحى، وكل ما نعرفه من ذلك وهو صحيح، الأمر استمر حتى نهاية حكم مبارك، وكان الهجوم على الثقافة أكبر من ناحية تيارات الإسلام السياسى التى ترك لها الحكم فى الشارع تلعب فى رؤوس أصحابه البسطاء، وساعدها عليه بأن أهدر التعليم إهدارا جعل الثقافة سؤالا غائبا فى كل مراحله، ورغم ذلك اتسعت مساحة الثقافة والمثقفين، وازدهرت دور النشر الخاصة والجمعيات الأهلية الثقافية والفرق الشبابية فى المسرح والموسيقى، وإن كانت فنون مثل المسرح والسينما أصيبت بتراجع كبير واضح، خاصة فى السينما لأسباب ليس هنا مجال مناقشتها، ومن ثم فالسؤال المطروح دائما علينا فى التحقيقات الصحفية أو حتى ما يكتبه المفكرون عن الثقافة، هو دائما عن هذه الأشكال المتعددة من الثقافة - شعر - قصة - رواية - نقد - فكر - مسرح - سينما - موسيقى - فن تشكيلى - نحت - إلخ، ويظل سؤال الثقافة الآخر غائبا، ما هو هذا السؤال الذى أعنيه اليوم؟ بعيدا عن أى تعريفات فكرية للثقافة وهى كثيرة، فإن تعريف إدوارد بيرنت تايلور عالم الأنثروبولوجيا البريطانى الكبير فى القرنين التاسع عشر والعشرين هو التعريف الجامع المانع. أو ببساطة الشامل للثقافة وهى «المنجز الروحى والمادى لشعب من الشعوب» والمنجز الروحى هو ما أشرت إليه سابقا من فنون وآداب ودراسات، وهو كما هو واضح لم ينتكس إلا فى نوعين منه، لكن المنجز المادى هو السؤال الغائب منذ ثورة يوليو 1952 وازداد غيابه منذ السبعينيات، تقريبا لم يعد يشغل أحدا فى عهد مبارك.
تجليات المنجز المادى تظهر فى نظام وأشكال البناء والشوارع والطرق وبناء المدن والحدائق، فضلا على الاختراعات المختلفة فى سائر المجالات امتدادا إلى الأزياء وأنواع الطعام وطرق الطهو وهكذا، وعند النظر إلى هذا المنجذ الثقافى تجد أنه قد أصيب بانحطاط رهيب، ظهر هذا الانحطاط بشكل كبير منذ السبعينيات، لم يكن للفترة الناصرية تأثير سلبى عليه واضح، لأن ما حولها من منجذ مادى للعصر السابق كان باقيا متمثلا فى العمارات القديمة فى «نص البلد» وفى مصر الجديدة وفى غيرها من أحياء الطبقة الوسطى، وحتى الأحياء الفقيرة كانت تتميز بالشوارع المتسعة النظيفة والبنايات متناسبة الارتفاعات مع الشوارع، وكذلك المدارس وعدد التلاميذ فى الفصول، أضف إلى ذلك خطة بناء المصانع الجديدة التى كان عيبها وازداد بعد ذلك رغم أنها كانت منجذا ماديا حقيقيا، كان عيبها فى قربها من المناطق السكنية رغم ما بدا من بعد ذلك الوقت لقلة عدد السكان، ومن ثم ساهمت فى تلوث البيئة ظهر شيئا فشيئا، حتى صار الآن هو أساس البيئة! وبدأت اعتداءات قليلة على بعض الحدائق الطبيعية اتسعت بعد ذلك فظهرت أحياء كاملة محل الأشجار، كما جرى فى منطقة العباسية مثلا، لكن كما قلت كان المنجز الثقافى قبل ثورة يوليو بشقيه الروحى والمادى موجودا ورجاله موجودين، ومن ثم بدأ التغير الثقافى المادى قليلا ربما لا يرى إلا للملاحظ القوى وقد لا يعتد به.
منذ السبعينيات بدأ تجريف المنجز المادى تجريفا رهيبا تمثل فى ظهور العشوائيات وردم البحيرات العظمى لمصر وبناء مصانع كيماوية وبترولية عليها وقرى سياحية ومصانع أسمنت. وحل الفساد الرهيب فى المحليات فتركت البنايات ترتفع فى الأزقة إلى أضعاف أضعاف عرض الزقاق، وتم الهجوم الرهيب على الأرض الزراعية للتحول إلى مساكن وعشوائيات بدورها، وأهملت العمارات القديمة من سكانها ومن المحافظات، فصارت جراجاتها محلات وورش ينتظرون سقوطها لترتفع المولات واحتل الصنايعية كثيرا من الآثار الإسلامية. واختفت الحدائق تماما إلا الحدائق الشهيرة مثل الأورمان، لأنها محط أنظار الناس وحتى هذه ضاع من مساحتها الكثير. أما الشوارع فأنت تراها كيف صارت، مقالب زبالة، والصرف الصحى فى البلاد فأنت تراه، وزحفت العشوائيات إلى المناطق الجميلة مثل الشواطئ، وفى كل أنظمة البناء صرنا محاصرين بين النظام الأمريكى فى المولات والعمارات الشاهقة والنظام العشوائى، فلم يعد هناك أى منظر فنى للعمارات أو المصالح أو الوزارات الجديدة، واختفت الجراجات فازدحمت الشوارع، وهكذا على الإجمال، حتى المناطق الجديدة تظهر قريبا منها مناطق عشوائية وسرعان ما يلتحمان. أما الصناعة فصارت التجارة والتصدير والاستيراد الأساس، فلم يعد لدينا بيئة صالحة للتقدم الصناعى وتأخر البحث العلمى، وأصبحت المستشفيات مثل السجون فى قذارتها وهكذا، كل ذلك أيها السادة منجز ثقافى مضاد للمنجز القديم الذى عرفته مصر منذ عهد إسماعيل باشا بشكل واسع، واستمر حتى ثورة يوليو، وبدأ الهجوم العنيف عليه منذ السبعينيات، وكانت النتيجة لذلك كله، هو أن البشر الذين هم بين هذا التخلف المادى للثقافة لم تعد تعنيهم كثيرا الثقافة الروحية، لأنهم مشغولون بالعيش والبحث عن لقمة العيش، وافتقد الكثير منهم مع الوقت حاسة التذوق للجمال، كيف يتذوق تلميذ الجمال، وهو فى فصل به سبعون تلميذا ومدرسة خمسة أدوار وطريق لا يمشى فيه غير التوك توك؟ سيطول المقال ويصبح غما ويكفيكم غما، وأعود وأقول إن السؤال الغائب فى الثقافة هو هذا المنجز المادى ودون تحقيقه، فالمنجز الروحى يظل فى حالة حصار مفتقدا مستهلكيه، والمنجز المادى ليس من عمل وزارات الثقافة ولا الجمعيات الأهلية لكنه عمل الدولة، هل رأيت الآن أنه كانت لدينا أصلا دولة تفهم ذلك، وهى التى دمرت كل إنجازات العصور السابقة؟
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
نزار سيد القاضي
الحب كله للدكتور محمد مرسي رئيس مصر العظيم