محمد جاد الله

أزمة الهوية وقصور الخطاب الدينى

الإثنين، 23 سبتمبر 2013 08:03 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هناك قصور واضح يحدث فى معالجة الخطاب الدينى لقضية عدم انفصال الدين عن العلم فى عقيدة التوحيد الإسلامية، لأن العلم المعنى ضمنياً فى الخطاب، لا يشمل إلا المعارف فى علوم طبيعية كالفيزياء والكيمياء والفلك والطب والرياضيات، وما إلى ذلك من علوم تفيد الإنسان فى معرفته بقوانين الطبيعة من حوله؛ وتسهم فى تحسين حياته المادية، وتؤدى إلى أن يزداد الإنسان المؤمن بوجود الخالق إيماناً على إيمانه.


أما علوم إنسانية كالحضارة والتاريخ الإنسانى، والفلسفة، وعلم النفس التطبيقى، وعلم الإنسان وتطوره، وهى أمثلة لعلوم تقود الإنسان إلى التعرف على تاريخ جنسه، واستيعاب منابع الحكمة ونتاج العقل المعرفى الجمعى للحضارة الإنسانية فى العالم من حوله عبر آلاف السنين، وتربطه ببيئته الحضارية، وتساعده مرحلياً فى تشكيل رؤية ذاتية لهوية وطنية مستقرة، فلا أجد لها تضميناً راسخاً فى الخطاب الدينى المعاصر.



وقد أدى إهمال دمج المفردات الحضارية، فى الخطاب الدينى ومناهجه إلى تعميق أزمة الهوية الوطنية الحادة، التى تتجسد فى تلك الفتنة المجتمعية التى نحيا فى أحداثها المؤسفة، بما تمثله من ردة إلى عصور ظلام لا يجب أن يكون هناك مكان لها فى مستقبل أمة فتية، كالأمة المصرية.
لذا أصبح لزاماً علينا، بسبب تمكن ثقافة العبث، والقبلية وانتشار الخرافة والطبقية فى النسيج المجتمعى، أن يتحمل كل منا على المستوى الفردى مسئوليته تجاه رسم ملامح خارطة طريق ذاتية لهوية حضارية متزنة، فلا عذر لنا ونحن نعيش فى وطن به الآلاف من الشواهد الحضارية، ولا نجد لها قيمة ملموسة لها فى تحضر الوعى الجمعى.


ولا أطلب من كل منا خاصة الشباب إلا وقفة مع ضميركم الفردى، بالاجتهاد فى الإجابة عن بعض أسئلة بصدق مع الذات:

- أمنَ الحق أن نقبل باجتزاء ديانة التوحيد "الإسلام" من سياقها الحضارى والتاريخى منذ عهد آدم؟ ونقبل بترسيخ مفهوم "الإسلام" فى الوعى العالمى على أنه ديانة سماوية منفصلة نزلت على النبى الخاتم محمد عليه الصلاة والسلام قبل خمسة عشر قرناً، بل ونساهم فى ترويج هذا القصور، ونتجاهل ربط الإسلام فى كل لقاء ومحفل بأصوله التوحيدية فى كل الأزمنة والحضارات؟


- أمنَ الدين أن نتفرغ باسم نصرة الدين للبحث فيما نراه نقائص فى الأديان الأخرى، بدلاً من الانشغال بالبحث عن أرضية مشتركة لمعرفة الآخر العقدى والثقافى، احتراماً واتباعاً لسنة الاختلاف التى قضى بها الله فى كونه؟

- أمنَ الحكمة أن نستمر فى تجاهل حكمة الخالق فى تخليد وطننا بشواهد علم عظيم وإيمان عميق خلفتها حضارة العلم والعدل والإيمان المصرية القديمة التى حفظها الله لنا لتكون دافعاً ملزماً للبحث فيها عن منابع الحكمة الذاتية، ولا نذكر فى شأن خلود الوطن مصر وبركته فقط، إلا أن اسمه قد ذكر عدة مرات فى قصص الأنبياء عليهم السلام فى القرآن الكريم؟

- أمنَ الكرامة الإنسانية أن نرضى بالدنية فى حضارتنا القديمة، وهى أم الحضارات الإنسانية، بتركها نهباً إما للجهل من جهتنا أو للتسفيه أو الاستغلال أو القرصنة من قبل من لا تاريخ حقيقى ولا جذور لهم؟

- أمنَ الحصافة، والذكاء أن نهمل سبل المعرفة والوعى الحق بحضارتنا الممتدة، التى تمثل الأساس والرابط الإنسانى المشترك بيننا كمصريين ومصريات من جهة، وبين أصحاب الثقافات والحضارات الأخرى من جهة أخرى، ونهمل استخدام هذا الوعى المتقدم فى دعم رسالة مصر القدرية، وقوتها الثقافية، والحضارية الناعمة بغرض إحلال السلام بين الأمم؟


- أمنَ الوطنية أن نخدم بتراخٍ مخل ودون إدراك، مخططات الفكر المتطرف اليهودى ومطامعه فى القرصنة على التاريخ المصرى، ومن ثَمَ على جذور التاريخ الإنسانى، كى يستخدمه كوسيلة مستقبلية لبسط سيطرة حق تاريخى على أراض مصرية، مستغلاً قصر العلم الشعبى بحضارة المصريين، على قصص الأنبياء إبراهيم ويوسف وموسى عليهم السلام، رغم أنها الحضارة التى خَلَّفت نتاج تجارب موثقة امتدت لآلاف الأعوام،ومن لم يتعظ مما وصل إليه الحال فى القدس .. فلا عظة له.


- أمن الوعى أن نُقبل على تصديق الإسرائيليات المدسوسة والتفسيرات الملتوية لكتاب العهد القديم فى الدراما والمسلسلات "الدينية" الساذجة، كالمسلسل الكارتونى الكارثة "كليم الله"، وهو الذى لا يقل صفاقة تاريخية عن الفيلم الهوليودى الكارتونى "الأمير المصرى" فى تشويه الصورة الذهنية للنشئ والشباب عن حقيقة حضارتهم العادلة؟

- أمن التحضر أن ندعى أننا أصحاب حضارة إسلامية عظيمة، ونحن نستسهل التنميط بتسمية كل بناء أثرى له مأذنة أوقبة تقع عليه أعييننا عندما نمشى فى شوارع القاهرة القديمة، "مسجداً"؟؟!!
فنضيع بذلك على أنفسنا الفرصة فى تدبر الفوارق المعمارية والوظيفية بين تلك البنايات الأثرية، وتذوب الفوارق بين "المدرسة"، و"الجامع"، و"التكية"، و"الخانقاه"، و"البيمارستان"، و"السبيل"، و"الكتاب"، ونفقد ارتباطنا بتاريخنا، وحضارتنا وشواهدها.


تلك المعلومات المبدئية لا تمثل تكلفاً أو إبحاراً فى العلوم، وإنما تمثل أبجدية التحضر والمدنية، الملزمة لساكنى المدن، كما أنها تمثل بداية لاستكشاف آفاق لا حدود لها فى التفكير الحضارى خارج الصندوق..

فقط نطلب الاجتهاد فى تسمية الأشياء بأسماءها؛ حتى لا نساهم فى تضليل من بعدنا.


على طريق البحث عن التحضر، واستقرار الهوية الوطنية أشبه حالتنا برجل يمشى فى أرجاء مدينة مزدحمة بالتفاصيل كالقاهرة، وهو يبحث عن عنوان قصر عظيم ورثه عن أجداده.

وعلى الرغم أنه يحمل بين يديه أحدث جهاز مستورد لتحديد المواقع المتصلة بعشرات الأقمار الصناعية (GPS)، والذى يحدد موقعه بدقة، إلا أن الجهاز كان غير مدعوم بخرائط المدينة التى تحمل تفاصيل، وأسماء الشوارع والمبانى من حوله، فلا يرى على الشاشة إلا نقطة تحدد موقعه هو على خلفية فراغ رمادى، فيمشى هائماً على وجهه على غير هدى، يتوسم الصدق فى كل يد تمتد لمساعدته، ثم يكتشف بحسرة كم هى قاصرة تلك اليد .. ويمر على القصر عشرات المرات دون أن يميزه، ثم يمضى مبتعداً حتى تخور قواه دون أن يصل إلى غايته.


نواة الهوية هى فهم وإدراك الأسماء والأسباب، والمعانى الكامنة خلفها.

و"الأسماء كلها"، التى علمها الله لآدم عليه السلام، لم تكن فقط نصائح سلوكية كى يكون حَسِن الخلق، ومتصل بالسماء فقط، كما هو الحال فى خطابنا الدينى، وإنما كانت بمثابة خرائط معلوماتية تصنع هويته بقبس واف من كل العلوم، كى يسترشد بها فى رحلة عمره فى البحث عن ذاته الحقيقية بين الحق وبين الباطل.

وقد أثبت تخبط الوعى الحادث فشل الخطاب الدينى الموجه من الأئمة والدعاة، وعلماء الدين فى احتواء حزمة العلوم الإنسانية التى تساهم فى ترسيخ دعائم هوية وطنية جامعة، تقينا الفرقة بين أبناء الوطن، وقت الشدائد، وتقى الشباب خاصة من الوقوع فى دوائر الانسحاب والإحباط واليأس.

تنمية الحكمة الذاتية فى البحث عن هوية إنسانية ووطنية مستقرة، هى ضمانة الحماية لمستقبل الدولة والشعب، واللحاق بركب المواطنة العالمية.

لا تنتظروا دورا من الدولة الآن لتنميتها، ولا تنتظروا إصلاحا سحريا فى نظام تعليم، أو طفرة خرافية فى تحسين أداء إعلام خلال سنوات قليلة.

ولا تنتظروا ظهور الداعية الدينى أو العالم السوبر المنتظر، كى يخرجنا من ظلمات زيف تاريخ طويل إلى نور نبنى به مستقبلاً.

فعلى كل إنسان مكلف بمسئولية نفسه أولاً فى السعى للحكمة الذاتية، وخوض تجاربه الخاصة، والتعثر ألف مرة على طريق تدوين خرائطه المعرفية المشرف دون إحباط، وتنويع المصادر والمشارب، من أجل الوصول إلى رؤية واضحة تمثل هويته الإنسانية والوطنية..


إنما هى حياة دنيا واحدة .. نحياها بهوية ذاتية واحدة..
ولا عزاء للمقصرين..









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة