لا أبالغ إذا قلت إن حصار الأمة المصرية قديم قدم وجود الأمم الغربية التى لم تسمح لأى نهضة أن تكتمل، ولا لأى زعيم قرر أن يستقل بالمحروسة عن التبعية لها، ومن يعتقد أن ذلك مجرد أوهام فهو جاهل بالجغرافيا والتاريخ أيضًا!!
1- عندما جلس كيرى وتحدث فى جلسة الاستماع الخاصة بالكونجرس، راح يتحدث عن أطفال سوريا، والقيم الأمريكية التى ينبغى أن تلعب دورها فى حماية شعوب العالم من خطر السلاح الكيماوى، وبدا وكأنه يلقى النكات ليس إلا، فسنوات العار الأمريكى فى العراق لا تزال حاضرة فى ذاكرة كل حر فى عالمنا العربى والعالمى، والقيم الأمريكية لم تمنع الضربات الجوية أن تقصف الأطفال وتستخدم الأسلحة المحرمة دوليًا، حتى بلغ عدد من قتلتهم فى الدولة التى كانت وهى العراق مئات الآلاف فى إحصائيات رسمية وغير رسمية، وهو ما جعل بعض النواب الجمهوريين يتساءلون ما هو الهدف من ضربة محدودة، وقال أحدهم إلى كيرى: "أين الحقيقة أخبرونا بالسبب الحقيقى!"
إذا عدنا بالذاكرة سنوات قليلة قبل اجتياح العراق فى ولاية بوش، وبعد أحداث سبتمبر المثيرة للجدل، والترويج لمصطلحات من قبيل العولمة، والنظام العالمى الجديد، ومحور الشر، والمقولة الشهيرة "من ليس معى فهو ضدى"، والاجتياح الغاشم للعراق والذى حرق الكتب قبل البشر، والقضاء على الجيش العراقى، وتسريح أفراده وإحداث نموذج تقسيم الدولة الموحدة إلى دول وفرق وملل متناحرة، أنتجت لنا أمة هزيلة بعد أن كانت منارة للعلم، ومكتبة بغداد التى احترقت إبان الغزو، كانت نيرانها شاهدة على مذابح لن تمحى من ذاكرة الإنسان العربى عبر التاريخ.
كلنا أيضًا يتذكر تلك الضربة الشهيرة للسودان بحجة ضرب المصنع الكيماوى، وتغذية الجنوب للحصول على انفصاله، وبالفعل أصبح السودان دولتين.
كما نتذكر الضربات الجوية لحلف الناتو فى ليبيا لإسقاط القذافى.
ومع مجىء الربيع العربى لم تكن مصادفة أبدًا أن تسقط الأنظمة الجمهورية فى تونس ومصر واليمن وليبيا، ولم تتبق سوى سوريا، التى جاء دورها لتسقط، وليحكمها تيار إسلام سياسى آخر، مثل ما حدث فى تونس ومصر وليبيا، وكأن جماعات الإسلام السياسى ورثت الربيع العربى بمباركة غربية، وهو المسلك الذى تناقض مع أفكارهم السابقة، بمطاردة تلك الجماعات ووصفها بالإرهابية، ووصل حد التشنج بإدارة أوباما إلى الدفاع المستميت عن الإخوان المسلمين فى مصر، وتعليق المساعدات العسكرية للجيش، وهو المسلك الذى جعل النشطاء يصورون أوباما وهو يرتدى زى القاعدة وله لحية وفى يده سلاح آلى كتعبير عن انحياره للجماعات المسلحة التى يحاربها!
2- تظل مصر حالة خاصة فى الربيع العربى إذ تبدو مستعصية على المشروع الأمريكى فى المنطقة، ومع دعم أوباما للتغيير بعد مبارك، فهو على ما يبدو لم يكن سعيدًا بتولى المجلس العسكرى مقاليد الأمور، وفيما يبدو أنهم كانوا يتوقعون مجلسًا انتقاليًا يكون أحد عملائهم رئيسا له لكن بعد مبارك الذى أوكل المهمة للمشير طنطاوى ومما يمكن قراءته فى تلك المرحلة هى تلك الحملة الشعواء التى أشعلتها بعض الحركات المدنية المدعومة من أمريكا والتى وضعت شعارا بيسقط حكم العسكر والدعوة لعصيان مدنى، سرعان ما فتح بعده المجلس العسكرى ملف التمويل الأجنبى وأن إدارة أوباما صرفت 200 مليون دولار بعد ثورة 25 يناير لجهات غير حكومية، واكتشفت أمريكا أن الشعب المصرى رفض كل محاولات إسقاط الجيش فى المرحلة الانتقالية وتم رفض الدعوة للعصيان المدنى آنذاك، ومن ثم تحول الدعم من تلك الجماعات إلى جماعات الإسلام السياسى وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين.
إن تقسيم مصر قد لا ينجح إداريا وحدوديا لكن الرهان على تقسيم المصريين فكريا، وكان الدين هو الخطة التى تم البناء عليها فمع مجىء مرسى فوجئنا بجماعات متشددة وأناس متورطين بدماء المصريين يتصدرون الساحة السياسية والإعلامية، وما كان هناك بيت إلا وفيه انقسام وشجار بين الإخوة وفى العمل بين الموظفين والعاملين وفى المواصلات ووصل لحد المساجد التى تحولت لساحات قتال وعراك بالأيدى !
إن تحويل الصراع السياسى فى مصر إلى صراع دينى كان يخدم الهدف تماما، لأن ذلك سيدفع باتجاه الحرب الأهلية التى ستمكن الدول الغربية وأولها أمريكا من التدخل فى مصر، وكانت المؤسسة العسكرية كثيرا ما تنبه إلى خطورة ذلك عبر صفحاتها الرسمية وأبدت رغبة بعدم التدخل فى الصراع لكن ما حدث يوم 30 يونيو أوحى للمؤسسة العسكرية بأن بشائر الحرب الأهلية قد بدأ ومع خطاب رابعة العدائى، لذا لم تتوقع أمريكا ولا الدول الغربية أن يتدخل الجيش وينحاز إلى ثورة الشعب ويقوم بعزل مرسى وعندما يقول المحللون أن تدخل الجيش أفشل المشروع الأمريكى فهو صحيح تماما، لأن الحرب الأهلية كانت ستدمر البلاد وأهلها وتسمح بالتدخل الغربى وهو ما جعل الجيش يفوت الفرصة عليهم جميعا !
3-
عندما تحتل بلدا فأنت توحده هذه قاعدة تعلمها الغرب ومصر دولة القلب فى العالم العربى وإسقاطها يعنى إسقاط الشرق الأوسط بأسره، ولذلك هم توقفوا عن فكرة التدخل المباشر ومنذ التدخل البريطانى فى أعقاب الثورة العربية تعلموا درسا أن كفاح الشعوب ضد المحتل لا يتوقف، لذا قاموا بتغيير الاستراتيجية وعمدوا إلى فكرة دعم التيارات المتشددة ومساعدتها على تولى السلطة فى بلدانها، وموضوع الدعم المادى لهم لم يعد سرا ومن العبث الادعاء بأنه غير صحيح وتعتمد الفكرة أنهم يدركون جيدا أن تلك التيارات لا تختلف من حيث تفكيرها وأسلوبها عن الأنظمة الديكتاتورية التى سبقتها !! وتزيد عليها بأنها ربما تكون أكثر طاعة وأكثر رغبة فى تثبيت دعائم سلطتها باعتراف الأنظمة الغربية بها، لذا نجد فى ولاية مرسى القصيرة وعلى مدار العام لم نجد أى مجهود يذكر تجاه القضية الفلسطينية رغم أنهم كانوا قبلها يقولون إنهم سيزحفون على القدس بالملايين ! وبدت جماعته وكأنها شعبا مختارا داخل الوطن الأم وتعالوا على معارضيهم الأمر الذى انتهى بالإطاحة بهم من السلطة بشكل مبهر بعد حشود لم تتكرر فى تاريخ مصر !
هذه الحشود المبهرة لم تشفع لتلك الثورة بالحصول على الدعم الدولى، ويبدو أن الصدمة كانت كبيرة على أمريكا والعالم الغربى ووصل الأمر إلى تعليق المساعدات العسكرية فضلا عن الجدل الدائر فى الأوساط الغربية، إلا أن الموقف العربى المشرف الذى حول الكفة بلغة حفاظ هذا العالم الغربى على مصالحه اضطر بهم إلى العودة خطوة للخلف لكن ليس تغيير موقف لأنهم يدركون أن مصر لا تزال صامدة رغم تلك الفوضى التى تعيشها منذ 25 يناير والسبب الذى توصلوا إليه هو ارتكاز الأمة المصرية على المؤسسة العسكرية كعمود قوى يحميها من السقوط لذا تظل قضيتهم الأساسية هو تحييد الجيش عن دوره الأخلاقى وهذا واضح من شعارات يسقط حكم العسكر التى امتدت من 25 يناير على يد النشطاء الممولين أجنبيا (بالطبع ليس كل من نادى بالشعار يتقاضى أموالا من الغرب) ونهاية بالإخوان المسلمين الذين حولوا دعمهم للجيش إلى نفس الشعار وإضافة عليه محاولة تخوينه وإظهاره بمظهر سيئ !
محاولة إسقاط الجيش المصرى هو أساس نظرية الشرق الأوسط المحطم لأنه عندما تم اجتياح العراق تم حل الجيش وفى الدول الأخرى تم مساعدة القوى المسلحة لمحاربة جيوش بلادها كما حدث فى ليبيا وسوريا ولكن الجيش المصرى ظل ممتنعا عليهم، وفشلت كل محاولات إيجاد قوى تواجهه مما حدا بهم إلى تدعيم كل محاولات تهدف إلى إضعافه وتشويه صورته وكانت جماعات الإخوان المسلمين خير خادم لتلك الفكرة.
إن مستقبل مصر رهين بتكاتف أبنائها حول مؤسسات الوطن من أزهر وكنيسة وشرطة وقضاء وإعلام والوقوف ضد التشدد والعنف، ومن حقنا أن نحلم بمستقبل ننمو فيه جميعا ونتعافى من سنوات الفوضى ونثابر كشعب على دستور يجمعنا وسلطة مدنية تكون، خادمة لنا بحق وأن نحافظ على هويتنا الإسلامية والعربية، وذلك فقط سيجعلنا نرى الشاطئ الآخر من الوجود !
