كانت مصر أول دولة إسلامية وأول دولة عربية وأول دولة فى قارتى آسيا وأفريقيا تصدر دستورا مكتوباً سنة 1876، وتوالت من بعده اللوائح والجمعيات التشريعية فى عصر الاحتلال الإنجليزى، وكان الزعيم سعد زغلول وكيلاً لآخر جمعية تشريعية مصرية قبل إعلان الحماية البريطانية على مصر سنة 1914، بينما صدر أول دستور تركى للدولة العثمانية سنة 1908 فى عهد السلطان عبد الحميد الثانى وبعد ثورة 1919، واعتراف بريطانيا بمصر دولة مستقلة مع تحفظات أربعة فى 28 فبراير سنة 1922 شكل السلطان فؤاد الذى أصبح ملكا بعد التصريح البريطانى لجنة من ثلاثين عضوا من صفوة عقول مصر الفكرية والقانونية والسياسية المستقلة الوطنية قامت بوضع دستور 1923، والذى صدر بمرسوم ملكى دون مشاركة حزبية سواء من حزب الثورة (الوفد) برئاسة سعد زغلول أو حزب القصر (الأحرار الدستوريون فيما بعد).
وكان هذا سببا فى هجوم الزعيم سعد زغلول على اللجنة وسماها: لجنة الأشقياء، ولكن الوفد دخل الانتخابات على أساس من هذا الدستور واكتسحها وأصبح هذا الدستور بعد ذلك هو أيقونة حزب الوفد يدافع عنه ويناضل فى سبيل احترامه وتطبيقه وبقائه وحين ألغاه صدقى باشا سنة 1930 وأصدر دستورا آخر يدعم سلطات القصر والملكية خاض الوفد نضالاً قاسياً لإلغاء هذا الدستور وإعادة دستور 1923 وبعد ثورة 1952 تم وضع دستور برلمانى سنة 1954 لجمهورية برلمانية قريباً إلى حد ما من دستور ألمانيا الحالى، وضعته أيضاً لجنة معنية وليست منتخبة ودفن فى الأدراج ولم يظهر إلى النور، حيث انتصر منطق الدستور الرئاسى فى مناقشات مجلس قيادة الثورة على الدستور البرلمانى الذى كان يعتمد فى جوهره على عودة الأحزاب السياسية بعد تطهيرها فصدر دستور 1956 الرئاسى، والذى انتخب على أساسه الزعيم جمال عبد الناصر فى استفتاء يناير 1956، الذى جمع بين الدستور والرئاسة فى بطاقة واحدة تم الاستفتاء عليها.
وبعد الوحدة مع سوريا سنة 1958 صدر إعلان دستورى لدولة الوحدة وفى سنة 1964 صدر دستور مؤقت ثم صدر دستور 1971 فى عصر الرئيس السادات وهو الدستور الذى عدله السادات ومبارك عدة مرات كانت آخرها تعديلات 2007 التى اشتملت 32 مادة وكل هذه الدساتير أصدرتها وعدلتها لجان معينة متخصصة فى القانون الدستورى وغير حزبية وحين شكل تيار الإسلام السياسى جمعية تأسيسية لوضع دستور ما بعد ثورة يناير من مائة عضو أغلبيتهم من أحزاب دينية ويفتقرون إلى العناصر القانونية المتخصصة، والتمثيل المتوازن لكل فئات وطوائف وآراء ورؤى الشعب المصرى كانت النتيجة دستوراً مشوهاً متحيزاً سىء الصياغة يحتوى على كثير من ركاكة الصياغة وتناقض الرؤى ويقترب من الدولة الأوثوقراطية الدينية أكثر من الدولة المدنية العصرية.
ولذلك عطله الشعب المصرى بعد احتشاده الأسطورى الرافض لحكم الجماعة فى 30 يونيو سنة 2013 وعاد إلى نظرية تشكيل لجنة من عشرة خبراء فى القانون الدستورى تضع مقترحات فنية متخصصة لتعديله تناقش، ويتم إقرارها أو تعديلها النهائى من خلال جمعية من خمسين عضوا تم اختيارهم من خلال المؤساسات الشعبية والمجتمعية والنقابات المهنية والتيارات السياسية والقيادات الدينية والمثقفين والنشطاء السياسيين والشباب والمرأة بشكل متوازن لوضع دستور لدولة مدنية عصرية لا ينحاز إلى فئة على حساب فئة ويساوى بين المصريين جميعاً دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو المذهب أو العرق، ويؤدى إلى الفصل المتوازن بين السلطات الثلاث تنفيذية وتشريعية وقضائية.
ويؤكد على استقلال القضاء واحترام أحكام القانون ويضع العدالة الاجتماعية ورعاية الفئات المهمشة والمستضعفة أساساً لمواده ويحافظ على حقوق الأقليات الدينية والعرقية ويساوى بين المواطنين فى الحقوق والواجبات، ويؤكد الهوية الوطنية المصرية كمشترك أعلى بين جميع المصريين ويؤصل الانتماء لمصر تاريخاً وقومية ويرعى الحريات فى التعبير والإبداع والنقد والمعارضة السلمية بالحجة والرأى ويدعم حقوق الإنسان ويوزع السلطة، بحيث يجفف منابع ظهور أى طغيان أو دكتاتورية أو تمكين لفئة أو حزب أو جماعة من مفاصل الدولة ويقنن دور الجيش والشرطة فى تحقيق الأمن القومى والاستقرار المجتمعى دون انحياز لسلطة أو نظام حاكم، وتاريخنا العريق الذى يقارب مائة وأربعين عاماً فى صياغة الدساتير يدفعنى إلى التفاؤل بقدرة هذه اللجنة الخمسينية على وضع دستور عصرى يليق بمكانة مصر وتاريخها العريق ومكانتها الإقليمية والدولية وتنوعها الفكرى والسياسى الذى يجمعه رغم الاختلاف هدف وطنى واحد، إذا خلصت النيات.
وكان الهدف صالح الأمة وتقدم الوطن واللحاق بركب الحضارة الحديثة، ولا أجد مبرراً مقنعاً لمن يتظاهرون بالخوف على الدين والعقيدة والشريعة لأنها راسخة فى نفوس المصريين ولم تحتج يوما لنصوص دستورية لفرض دين أو عقيدة على المصريين فهم أكثر الشعوب تمسكاً بعقيدتهم وشرائع أديانهم واحترامها دون حاجة إلى أى نص مقيد أو فارض لرؤية جماعة أو حزب.
