الناس قد عرفوا الحروب والفتن، وعرفوا الأوبئة والعوارض المتكررة، وعرفوا المظالم وضروب العدوان، وقد ثقل منها ما ثقل، وخف منها ما خف، إن كان هناك اختلاف فى أثقال الشر وجرائره. ولقد كان الناس قديماً يسألون: من أين يأتى الشر إلى العالم والله خالقه رحيم قدير؟ وكانوا يسلمون الجواب ولا يلحون فى الحساب، وكان هذا دأبهم فى محاسبة الحاكمين من بنى آدم، فلا جرم يقبلون من الحاكم الخالق ما يقبلونه من الحاكم المخلوق، ومنها أن الشر لا وجود له بذاته، وإنما هو غياب الخير أو نقصه. فليس الظلام شيئاً غير احتجاب النور، وليس الشر شيئاً غير انقطاع الخير، ومنها أن الشر تربية نافعة لبنى آدم، وأن تجارب الأيام قد بينت للناس أن الشدة أنفع لهم من الرخاء فى كثير من الأحيان. ومنها أن الشر ضرورة ناجمة من التقاء الخيرات الكثيرة، فوجود النور مثلا ممكن، ولكنه لابد من النور والظلام والشروق والغروب حين توجد الكواكب وتوجد معها المدارات والأفلاك، ويوجد الليل والنهار والشتاء والصيف، والجدب والخصب، أو توجد مع النور خيرات غير النور. ومنها أن الشـر خير يوضع فى غير موضعه. ومن يعترض على أسباب الشر كمن يعترض على خلق الماء اعتراضاً على فيضان الأنهار. ومنها أن حرية الإرادة نعمة إلهية، وأن حرية الإرادة لا تكون إلا فى عالم يحدث فيه الخير والشـر، وينقاد فيه الإنسان إلى العمل الصالح غير مكره عليه. ومنها أن الشر هو تمام الخير الذى يوجد معه وينعدم بانعدامه، فلا معنى للرحمة بغير الألم، ولا معنى للشجاعة بغير الخطر، ولا معنى للكرم بغير الحاجة، ولا معنى للصفح بغير الإساءة، ولا معنى للنجدة بغير الظلم، ولا معنى للهمة والسعى بغير الحذر من مكروه والشوق إلى مأمول. ومنها أن الفروق بين الأشياء لازمة، ولولاها لم يوجد شىء مستقل عن شىء، ومع وجود الفروق لا مناص من الشكوى، ومن الطلب والفوات. فالناس فى هذا العصر قد تعودوا الكلام على مسئولية المحكومين كما تعودوا الكلام على مسئولية الحاكمين. فالحكومة مسئولة والأمة مسئولة والراعى مسئول والرعايا مسئولون. هذا خاطر أوشك أن يزحف من الوعى الظاهر إلى الوعى الباطن، فعود العقول أن تحمل على المخلوقات بعض المسئولية ولا تلقى المسئولية المطلقة على القدر. وهذا الخاطر من شأنه كذلك أن يكفكف من شهوة المحاسبة ولجاجة الشكوى، فلا تجرى المحاسبة فى مجرى واحد، ولا يزال العقل الحائر يبحث عن المحكومين المسئولين كما يبحث عن الحكومة المسئولة. (أن تقدير قيمة الوجود إنما يقوم على قيمة الإنسان. أن القسطاس هنا هو القيمة المعنوية وليس المنفعة . وعلينا أن نتبين كرم الله من التدبير الذى نتبعه وراء الشر والألم، لا من الشرور والآلام فى ذواتها ). أن الشرور التى فى هذا العالم لا ريب مفزعة بفرط كثرتها وانتشارها، ولكننا لا نستطيع أن نعرف حقاً مقدار الشرور التى لابد منها لتحصيل الخير الأعظم، فإن أعظم فضائل الأخلاق إنما تتحقق عند مناضلة أعظم الآفات.
فوزى فهمى غنيم يكتب: ليس الشر شيئاً غير انقطاع الخير
السبت، 14 سبتمبر 2013 03:10 م
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة