يتجه كثير من الخطباء والمشايخ فى الخطاب الدعوى المعاصر لتحريم الدنيا ومباهجها، والدعوة للانسلاخ منها والبعد عنها بالكلية، والانسحاب للصلوات والعبادات من صوم وحج وقراءة قرآن, وإهمال ما عدا ذلك من الأمور المعيشية باعتبار الدنيا دار فتنة ملعونة ملعون ما فيها, مما أدى لعزوف الكثير من الناس عن الدين بالكلية باعتباره سبب تخلف وتأخر الشعوب التى لا تولى اهتماما بالعلم ولا التجارة أو الصناعة، ولا يشغلها التقدم وسباق الحضارات ولا ترى الحياة سوى عبادات خالصة.
فهؤلاء الدعاة خوفوا كثيرا من الناس من العبادة باعتبارها مشقة ومعاناة ومفروضات ومحرمات كثيرة, حيث أصبح الدين بالنسبة لهم حدود ومحرمات وعبادات لا يطيقونها من كثرتها بالنسبة له وشدتها عليهم بعدما وجدوا فى الالتزام بالدين، بعدا عن كل مباهج ومتع وجمال الحياة وزهدا فيها, كما وجدوا فيها بعدا عن البحث والتعلم سوى فى العلوم الشرعية بسبب الخطاب الدعوى لهؤلاء الدعاة الذين أهملوا دعوة الناس لكل العلوم أو شحذ الهمم لإنتاج حضارى يرتقى بعلومنا الإنسانية لنلحق بركب الحضارة ونتقدمهم كما كان أسلافنا من المسلمين الأوائل.
بينما تطرف الخطاب الدعوى فى ناحية أخرى ووصل الشطط بفريق من الناس ممن يعتبروا الدنيا دار بؤس وشقاء وفتن، حتى إنهم يفرون من الدنيا فرارهم من الأسد إلى دعوة الناس للفرار من الحياة إلى الصوامع والموالد وحلقات الإنشاد والذكر بمفهوم الصوفية.
بحيث ينخلعون من كل ما لهم وكل من يخصونهم وينعزلوا عن الناس, ويحرمون على أنفسهم الطعام والشراب والزواج باعتبار الزهد وشظف العيش هو طاعة لله, ويهربون إلى البرارى والقفار خوفا من الناس على حالهم مع الله بحثا عما يسمونه تخلية النفوس والوصول للكشف والوصال مع الله، بمعنى أن تنكشف لهم علوم أسرار الغيب, وهم يتصورون أنهم يترقون فى مقاماتهم مع الله حتى يصل كبراؤهم إلى ما يسمونه الحلول والعياذ بالله, أى أن يحل الله جل وعلا فى أرواحهم كما يدعون.
بل إنه قد ظهر فى مجتمعاتنا فرق أشد تطرفا وغلوا تكفر وتفسق كل من يخالف منهجها وتوجهها الفكرى، مما يخوف وينفر الناس أكثر وأكثر بدلا من تجميع الناس وتحبيبهم فى الدين بروح التسامح والمحبة والإخاء التى تميز المنهج والعقيدة الإسلامية.
وفرق أخرى قررت اتخاذ منهج أكثر تهاونا ظنا منها أن ذلك سيجمع حولهم الناس أكثر مخالفين بذلك الفرق الأكثر غلوا فى الدين فتركوا للناس اتباع أهوائهم والإتيان بما ليس فى شرع أو دين.
للأسف إن كل تلك الفرق تشكل خطرا على العقيدة الإسلامية لدى عامة الناس، خاصة الذين يستقون علهم ومعرفتهم بالدين سماعيا ممن يثقون بهم من الدعاة.
وقد فتح ذلك النهج وتلك الطرق فى العبادة باب البدع والأهواء والمنكرات التى لم ترد فى قرآن أو سنة, ونفر المزيد من الخلق من الدين باعتباره خزعبلات وشطحات وأفكار مشوشة لا عقل فيها ولا منطق.
وللأسف فإن فى الدعوة لدين الله بكثرة الفروض والعبادات أو بالسباحة فى الملكوت بعيدا عن الدنيا وعمرانها أو بالتكفير والتفسيق والترهيب, أو حتى بالتهاون لدرجة عدم وجود ملامح واضحة للعقيدة أو أخلاقيات تنبع من الالتزام بمنهج إسلامى بمنطق الضعفاء الخاضعين الذين يأخذون من الغير لأنه الأكثر تحضرا دون الرجوع لأى روافد إسلامية، خوفا من الاتهام بالغلو والتحيز.
كلهم نفروا الكثير من الناس من دين الله اليسير المحبب إلى القلوب, وقد أصبح كثير من الناس يرون أن أمامهم أحد طريقين إما أن يقضوا أيامهم يصلون ويصومون ويسبحون ويقرأون القرآن ليل نهار دون تدبر أو فهم أو قراءة تفسير، وسنة وسيرة عطرة للمصطفى، صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام الأبرار ودون عمل وسعى وكد فى الحياة, ويهجروا الطيبات والملذات حتى المباحة, وإما أن يعيشوا حياتهم بالطول والعرض ويستمتعوا بحياتهم ويتعلموا ويعملوا ويسعوا فى الأرض للدنيا لا للآخرة, خاصة مع الصراعات المذهبية والتناقضات وتقليل كل فرقة من منهج الأخرى واتهامه مما شوش فكر وعقيدة الناس.
والحقيقة أنه لا تعارض بين عبادة الله والطاعة وذكرالله وقراءة القرآن, بقدر الاستطاعة, وبين الكد والعمل والسعى على الرزق وتربية الأبناء, وصلة الأهل وكل سبل الراحة والمتعة وفى الحياة ما دامت مباحة لا حرمة فيها, بل يؤجر عليها المسلم ما دام له فيها نية وإخلاص وكل سلوكيات وأخلاقيات المسلم هى جزء من دينه يؤجر ويثاب على الصالح منها وينال عظيم الثواب, لأن ديننا ليس دين صوامع ورهبنة, بل دين للدنيا وللآخرة معا.
ولم نسمع أبدا أن أبو بكر، على شدة تقواه، أغلق على نفسه بابه وهجر الدنيا، ولم نسمع أن عمر بن الخطاب، على شدة ورعه وعدله, اعتكف فى صومعة يصلى ويذكر ويقرأ القرآن، بلا عمل فى الدنيا بل على العكس لقد كان حاكما عادلا لأكبر دولة إسلامية، حتى عثمان بن عفان، الحيى الزاهد، كان تاجرا ثريا سخيا نفع الإسلام والمسلمين بماله, وقد كان إماما شهدت الدنيا أكبر فتوحات إسلامية وأول أسطول بحرى، وكذلك سعة ورغد عيش لرعيته, خلال فترة خلافته.
وعلى ابن أبى طالب، إمام الزاهدين، كرم الله وجهه، وكل أصحاب النبى، صلى الله عليه وسلم، ورضى الله عنهم, نفعوا الإسلام ونشروه وكانوا قدوة أخلاقية حيثما حلوا فنشروا الإسلام بالأخلاق والعمل والزهد والعبادة والإخلاص, لقد عملوا للدنيا كأنهم يعيشون أبدا, وعملوا للآخرة كأنهم يموتون غدا, فصنعوا من الإنجازات والأعمال الخالدة ما لم يصنعه غيرهم وكانوا (رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه) فجعلهم الله جميعا من أهل الجنة التى بشروا بها فى الدنيا قبل أن يعاينوها فى الآخرة.
لذلك فإن من يدعوا الناس لمجافاة النوم والراحة والمتعة والعيش فقط للأعمال التعبدية, دون حثهم على السلوكيات والمعاملات, ودون حثهم على العمل والإنتاج لدفع تنمية مجتمعاتهم, والتحلى بأخلاق الإسلام فى أى مجتمع يعيشون فيه, يقنط الناس من العبادة وينفرهم من الطاعة ويبعدهم عن جوهر الدين, ولا يضعهم على طريق خدمة الدين والدعوة لنشر الإسلام بالعمل والتحضر والعلم، وهو ما نحن كمسلمين فى كل أنحاء الأرض فى حاجة ماسة وملحة إليه الآن، حتى نعود أمة قوية تؤثر وتوجه، بدلا من أن نتأثر ونوجه من غيرنا بلا قدرة ولا طاقة على الاعتراض أو الرفض لما يملى علينا.
وكذلك من يفصل الدين عن الدنيا, ويجعلهما نقيضان لا يجتمعان فى قلب المؤمن ومن يحث الناس على ترك الدنيا لأهل الدنيا يفعلون بها ما يشاءون والإقبال على الآخرة, يفترون على الإسلام الذى لم يأمر المسلمين بذلك ولنا فى قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أسوة حسنة (أقوم وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء, فمن يرغب عن سنتى فليس منى).
فكيف بنا بمن يزعمون إتباع طرق فى العبادة لم ترد فى السنة, يترك الناس بها أصل الدين ويلحقون بمشايخ طرقهم بلا وعى أو عقل أو سند من شرع يوجهونهم كالقطعان حيثما شاءون.
ولو كان الخطباء والعلماء والمشايخ بينوا أصل الدين بيسر وسهولة وعلموهم صحيح السنة, بدون تشدد أو غلو لما انصرف كثير من الناس لاتباع طرق وملل هؤلاء المبتدعين, ولما تركوهم فريسة للبدع والخرافات التى انتشرت فى الأمة فى كل بلدانها, لنقص العلم الحقيقى بالدين وصحيح الشريعة, فنفس البشر ملولة تبحث عن من يحرك القلوب ويؤثر فى الوجدان ويحرك طاقة الحب والابداع.
ولو استطاع الدعاة تحريك القلوب وإثارة العزائم بما هو صحيح ونافع, ومثبت فى السنة, لما ظهرت البدع والمبتدعون ولما اتبعهم الناس وساروا خلفهم يستميتون فى الدفاع عنهم لأنهم أثروا فى نفوسهم وامتلكوا قلوبهم (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن).
فليس الداعية بالشديد اللهجة ولا القاسى ولا الذى يأمر الناس بما لا يطيقون أو يتهاون فى دين الله مرضاة للناس ولأهوائهم بدلا من إصلاحهم وتوجيههم لما يكون فيه صلاح دينهم ودنياهم.
صورة أ{شيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
علي
يا ليت الشيوخ ومن يعتلي المنابر يعتبرون