أخرَجَ البخارى مِنْ حديثِ أبى سعيدٍ الخدرى – رضى الله عنه – عنِ النبى – صلى الله عليه وسلم– قالَ (لتتبعنّ سننَ منْ كانَ قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراعٍ حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ لتبعتموهم، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن)
ظللتُ فترة ليْسَتْ بالقصيْرةِ وأنا فى مرحلَةِ التعليمِ الأساسى أبحثُ عنِ السَندِ المنطقى الذى مِنْ أجله شبّه الرسولُ، صلى الله عليه وسلم، تقليدَ بعضَ أفرادٍ من أمّتهِ لليهودِ والنّصارى بالذى يدخل إلى جحر ضب! ووقفتُ على الإجابةِ – فى ظنّى – وهى أنَّ بيْنَ الضب والعقربِ عقدٌ بيئى؛ فالأخير يحرِسُ الضب وأمّا الضب فيوفّرَ له الملاذَ والمسّكنَ؛ فيحرس العقربُ مدخلَ جحر الضب ولذا أى محاولةٍ منْ البَشرِ لدس أيديهم فى جحر الضب هى محاولةٌ أشبه بالانتحار، إذ لابد وأنْ يمر على العقربِ الحارس فى أول الجحر.
إنَّ قضيةَ الهُويةِ جحرٌ يُصيبُ منْ يحاول العبثَ به بلدغاتِ عقربِ الجينوم الحضارى والخصوصيةِ الثقافيةِ، فالتقليدُ (وأنا لا أقول التقليد الأعمى؛ لأنه لا يصح عندى أن يكون هناك تقليد أعمى وتقليد مبصر فالتقليد كله سواء.. ولكن هناك تقليدا وهناك على الجهة الأخرى ما يسمى بالاتباع) يذيب الجماعةَ فى مقابلِ الفرد الذى ينتشى بعشوائيةِ الاستيرادِ المعرفى دون ضبطِ الحدودَ الفاصلةَ بينَ الشرقِ والغربِ.
فى الأغلبِ أنا لا أميل إلى التسطيحِ فى رصد ظواهر التقليد واندثار الهُوية الجماعيةِ داخلَ المجتمعات العربيةِ ربما ذلك لسببين، أمّا الأول لأنَّ ذلك يخرج بالمقال من التنظير الموجز إلى الدراسةِ الميدانيةِ الموسّعةِ، وهذا – بِلا شك – ليْسَ مقصدٍ، وأمَّا السبب الثانى فلأنَّ هذه الظواهر أكثر وأشهر من أن تُحصى أو أنْ يتمَّ حصرها، فلقد اتُخذتِ الهُويةُ على مدى عقودٍ وأجيالٍ طويلةٍ مادةً ثريةً للبَحثِ والمداولةِ ممَّا أكسبَها عالميةً تُغنى الكاتبَ عن تِكرارِها.
وأزمَةُ الأزمةِ التى تعيشُها الثقافةُ العربيةُ تتجلى بوضوحٍ ضِمنَ حالاتِ الفهم المشوّهِ للعلاقة بين التراث والحداثةِ إلى جانب إشكاليات التحرير لمفاهيم وقيم مثل اللغة – الدين – المجتمع – الفرد – الثقافة – المعرفة – الخاص – العام.. الخ، وعلى الرغم مِنْ أنَّ الإسلام أرسى لمبدأ الفكر العالمى فتجدَ مسلما من أقصى القارة السمراء وآخر أبيض البشرةِ من تخوم البلاد الجليدية دون أدنى شذوذٍ فى العقدِ الاجتماعى تحت لواء الإسلام العالمى! الإ أنَّ الصحابة الفاتحين والرعيل الأول لم يصادروا على حق الاختلاف الحضارى والإبقاء على الشعائر التاريخية التى لا تضاد العقيدة الإسلامية.
علينا أن نعى جميعا أن الولاء المزدوجَ يُهدد التجانَسَ المجتمعى ضاربًا بالخصوصيةِ المحليةِ عُرضَ الحائط والذين يقلدون لا يدركون أنَّ الآخرَ يُنتِجُ ما يتناسب وحالته الحضارية ويتناسب مع رصيده التاريخى، فما يصلحُ لغيركَ ليسَ بالضرورةِ أنْ يصلحَ لكَ.
محمد جلال الأزهرى يكتب: الهُويةُ والجينوم الحضارى
الخميس، 12 سبتمبر 2013 05:22 م
صورة ارشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة