نحن أمام اختبار حقيقى للسياسة الخارجية لمصر ما بعد الثورة، فى الخمسينات تصدت مصر للأحلاف العسكرية واستطاعت أن تقضى على حلف بغداد، وساعدت الثورة الجزائرية حتى انتصرت، وأسهمت بشكل كبير فى القضاء على الوجود البريطانى فى عدن، بل وقصرت أمد وجوده فى الخليج العربى.
يجب أن تنتفض الدبلوماسية المصرية كى تطالب بحماية الدولة السورية بغض النظر عن موقفنا من النظام، أن نثير هذا الموضوع فى كل منظمة دولية وفى كل العواصم، أن تقود مصر الدول العربية ودول عدم الانحياز والعالم الإسلامى وأفريقيا، وأن تسترد الدبلوماسية المصرية قوتها وحيويتها، أن ننبه إلى انتهاك القانون الدولى، ونذكر بمصير العراق أن أى أضعاف للدولة فى سوريا لا يهدد المنطقة فقط بما فيها تركيا وإنما سيهدد العالم.
ذلك ليس دفاعاً عن نظام الحكم فى سوريا، ولكنه دفاعا عن واحد من آخر خطوط الدفاع عن الأمن القومى المصرى، أن "عرقنة" (أى خلق حالة عراقية) سوريا سوف تؤدى إلى أضعاف موقف مصر الإقليمى، ثم إن موقف أمريكا من مصر الثورة يجعلنا نحتمل أنها قد تتبع حملتها ضد سوريا بحملة أخرى على مصر.
ورغم أنه لا مجال العواطف فى حسابات الأمن القومى، إلا أننا فى مصر لا ننسى الفضل، فقد قام الشعب السورى فى ١٩٥٦ بتفجير أنبوب البترول احتجاجاً على العدوان الثلاثى على مصر، وعندما استهدفت الإذاعة المصرية بالقنابل، أعلنت إذاعة دمشق "هنا القاهرة"، كيف ننسى دولة الوحدة والإقليم الشمالى والجنوبى و"جول جمال" ضابط البحرية السورى الذى استشهد دفاعاً عن مصر، كيف ننسى أن الجيش العربى السورى كان رفيق القتال فى حرب ١٩٧٣.. أن التاريخ يؤكد الارتباط الوثيق بين الأمن القومى فى كلا البلدين.
لابد أن نحدد بدقة من العدو ومن الصديق، وأن نرسم إستراتيجيتنا على هذا الأساس، وتلك ليست دعوة للحرب ضد أمريكا، وإنما لتوصيل رسالة واضحة وقوية بأن مصر قد تغيرت، وأن لديها قوتها الناعمة التى يمكن أن تؤثر على مصالح الأعداء بشكل يجعلهم يعيدون التفكير فى مواقفهم، والنزاع الحالى هو أول اختبار حقيقى لمدى قدرة مصر الثورة على استعادة الدور القيادى لمصر فى الإقليم، مثلا، لماذا لا تدعو مصر إلى عقد اجتماع بين أطراف النزاع للتفاوض فى القاهرة؟.
ومن ناحية أخرى يمكن القول بأن موقف السعودية مفهوم، لأنه يستهدف الدفاع عن أمنه القومى من وجهة نظرها، فهى تنظر للوضع فى سوريا من زاوية أيديولوجية أى فى إطار صراع السنة والشيعة، وهو صراع يتم دفع المنطقة إليه، وفى تقديرى أن هذا الموقف يقتصر على رؤية تكتيكية ويفتقد للبعد الأستراتيجى، لأن "عرقنة" سوريا سوف تكون النار التى تمتد ككرة اللهب فى المنطقة كلها، ولن تكون السعودية بعيدة عن هذا اللهب، أن الإبقاء على الدولة فى سوريا هو الحد الأدنى الذى يجب أن نسعى جميعاً إلى تحقيقه.
انهيار الدولة يعنى انكشاف الأمن القومى العربى من جهة الشمال التركى، بالإضافة إلى انكشافه فى الشرق من اتجاه إيران، ومن ناحية أخرى فإن ذلك يعنى انتهاء ما كان يسمى الجبهة الشرقية فلا يبقى فى مواجهة إسرائيل سوى مصر، بل إن سيناريو التجزئة والتفتت سوف يتلو وفقاً لنظرية "إثر الدومينو" الشهيرة، وأكاد اسمع صرخة امرأة دمشقية تهتف "وامصراه"، "واعروبتاه"، بينما تتصاعد بين أروقة الجامعة العربية همسات خجلى تقول: "واخيبتاه".