محمد جاد الله

العدالة الانتقالية ومستقبل شفاء الصدور

الأحد، 01 سبتمبر 2013 11:23 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هيكلة منظومة للعدالة الانتقالية فى مجتمع مآزوم، تمثل مشروعاً قومياً لتأسيس بنية للسلم الأهلى والتصالح المجتمعى بين أطياف وطن، سواء كانت تلك الآطياف المجتمعية تمر بمرحلة صراع معقدة كتلك التى نحيا تفاصيلها، أو حتى فى مراحل ما بعد الصراع المستقبلية.

فالعدالة الانتقالية هى قاعدة انطلاق لبناء واقع جديد للعلاقات الإنسانية، وذلك ما أثبتته تجارب دول اجتهدت فى إصلاح ماضيها المشوه بالظلم، واستطاعت أن تصل بالمجتمع إلى مراحل المصالحة الوطنية، والتى تتعالى فى مصر أصوات كثيرة الآن، برفضها من حيث المبدأ؛ انطلاقاً من حالة الخوف والغضب المجتمعى المسيطر، مما أدى إلى ضعف الاهتمام الشعبى بتعريف المسارات والآليات التى تؤدى بالمجتمع من خلال مراحل مدروسة إلى بناء سلامة المنشود.

وفى قارتنا السوداء استطاعت هيئات سيادية انتقالية، كمفوضية جنوب أفريقيا للحقيقة والمصالحة على سبيل المثال أن تؤهل مجتمع قمع وعزل عنصرى إلى الوصول لآفاق تقدم مجتمعى نموذجية، لأن تلك الهيئات تضع الحقيقة والمصالحة والإنصاف على قمة أولوياتها، وتستوحى نظرياتها من المشترك الإنسانى المهمل فى مجتمعات عاشت لعقود تحت حكم ديكتاتورى.

وليست تونس عنا ببعيدة، فقد تضمن مشروع قانون "هيئة الحقيقة والكرامة" التونسية الواعد، تعريفاً شاملاً للعدالة الانتقالية جاء فى نصه:
"إن العدالة الانتقالية مسار متكامل من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة انتهاكات حقوق الإنسان، وكشف حقيقتها، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها، وجبر ضحايا الضرر، ورد الاعتبار لهم، بما يحقق المصالحة الوطنية، ويحفظ الذاكرة الجماعية، ويوثقها، ويرسى ضمانات عدم تكرار الانتهاكات، والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديموقراطى يساهم فى تكريس منظومة حقوق الإنسان".

ولكى تنجح الدولة المصرية والمجتمع يداً بيدٍ فى تجربة التأسيس للعدالة الانتقالية، فلن يتم ذلك أن ينتبه وعى الأفراد للتوصيف السليم لهيئات الحقيقة والمصالحة المزمع إنشائها وهيكلتها فى المستقل القريب، فهى ليست ولن تكون جهة مساومات حول مصالح الضحايا أو الحقيقة، وإنما هى جهة تستخدم آليات التفاوض للدفاع عن مصالح الضحايا والكشف عن الحقيقة.

وتمثل تلك الهيئات قوة ضميرية اقتراحية، تشرف على التنسيق المحكم بين الجهات الرسمية للدولة وبين ناشطى المجتمع المدنى على طريق صناعة السلم الأهلى، فهى ليست سلطة قضائية ولا برلمانية، ولا تملك وسائل التفتيش والإجبار، ولا تمثل سلطة اتهام أو محاكمة، وليست بطرف صدامى، بل هى وسيط محاور، ومدافع قوى عن كرامة الضحايا، وقيم الحقيقة، والإنصاف الإنسانى.

وتفصل هيئات العدالة الانتقالية فى اختصاصين:
الأول هو اختصاص "نوعى" يضع الإطار البحثى والتحليلى لانتهاكات حقوق الإنسان التى تكتشفها وتسعى للتصدى لها، والثانى هو اختصاص "زمنى" يحدد الحقبة التاريخية التى سوف تتم المحاسبة فى نطاقها، والذى من المتوقع أن يبدأ فى التجربة المصرية بعام ١٩٨١.

وفى تجربتنا الوليدة، أؤكد أن إصرار الدولة على إنجاح خطة العدالة الانتقالية، وحتى فى ظروف حدية مركبة للصراعات، كتلك التى نعيشها، يعد الضمانة الوحيدة للخروج بالمجتمع المدنى والأفراد من دوامات ودوائر استمراء الزيف والكذب والقهر التى أهلكت البنية الإنسانية للمجتمع، واستهلكت أخلاق أفراده، كما أنها أحد أهم ضمانات تمكين الشعوب من تفعيل تجربة ديموقراطية حقيقية، تقيها شرور سيطرة الفساد على المؤسسات فى المستقبل.

أما عن المصالحة الوطنية، فإن الاستمرار فى ادعاء البعض استحالة تحقيقها فى مصر، أو استغراق آخرون فى ترويج جهالة أن هناك نية لعقد مصالحات قبلية كما كان الحال، وأنها يمكن أن تتم دون محاسبة، فإن كل تلك الادعاءات لا تعبر إلا عن عدم ثقة فى إرادة شعب، ودولة مركزية هى الأقدم تاريخياً، ولا تنم بحال إلا عن قصر نظر وعدم موضوعية تميز مروجيها.

فهل من المسموح به إنسانياً تسفيه فرصة إثبات الحقيقة فى أحداث الماضى الملتبسة، ورفض فرصة محاسبة مرتكبى انتهاكات حقوق الإنسان، ونفى إمكانية توفير نوافذ عامة للضحايا وذويهم؟

هى فرصة تاريخية للدولة والمجتمع لمواجهة تحدٍ تأسيسى، يهدف لإحياء قيم العدالة فى ضمير الأفراد، والتى أهدتها الدولة المصرية لتاريخ المدنية الإنسانية قبل خمسة آلاف عام.

إنهاء حالات الاحتراب بين أبناء وطن واحد له ينجح فقط بالحلول الأمنية، فذلك يؤدى إلى تفاقم صراعات سياسية ومجتمعية مؤجلة عبر العقود، وإجهاض تلك التجربة الوليدة، أو عدم الاستبسال من أجل صيانتها، سوف يؤدى إلى بناء المزيد من "مقابر جماعية للضمائر"، تناثرت فى أرجاء الصدور المكلومة، عبر عقود من طمس الحقائق.

سيادة الحقيقة والمصارحة تشفى الصدور، والسلم الأهلى يضمن الأمن، والحلم بمجتمع تسود فيه قيم المواطنة، وبحزمة قوانين وإجراءات نافذة يُعَاقَب بها المُزَيِّف بزيفه، يستحق الكفاح.

فلا دخول للمستقبل دون إصلاح الماضى.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة