احتفل بيت الوادى بذكرى رحيل الكاتب الكبير يوسف إدريس الثانية والعشرين، واستضاف الناقد يسرى عبد الله بجامعة حلوان، وأدار اللقاء الكاتب الكبير أحمد الخميسى الذى قال فى البداية إنه رغم انقضاء اثنتان وعشرون سنة كاملة على رحيل إدريس عن عالمنا عام 1991، إلا أنه يشعر أن حضوره مازال قويا فقد ملأ الدنيا قصصا وحكايات ومسرحيات ومقالات مازالت حاضرة فى الوجدان المصرى.
وأضاف يسرى أنه برحيل يوسف إدريس تحطم الناى العبقرى الذى عزف عليه الفلاحون المصريون وفقراء المدن أشجانهم. الفلاحون الذين ظهروا بتردد للمرة الأولى عند أعتاب توفيق الحكيم فى روايته عودة الروح، وفى يوميات نائب فى الأرياف، ثم فى كتابه عدالة وفن، ثم عادوا إلى الظهور فى ضيافة يحى حقى، وطه حسين، إلى أن فتح لهم يوسف إدريس باب روحه على مصراعيه فدخلوا وجلسوا وأكلوا وشربوا وباحوا بما يشاءون لقلمه وعقله، وعندما انتزع الموت صاحب البيت من بينهم، جمع الفلاحون حكاياتهم ومواويلهم وغادروا المكان. ولم يعد يلوح من الفلاحين بعد ذلك سوى أطياف تهرول بشحوب فوق جسر الأدب الجديد، يتذكر الجميع يوسف إدريس: الفلاح الطويل القامة بوجهه الصريح ونافورة الحماسة التى تعلو بالأفكار الجديدة، سريع التوهج، تمتلئ أحاديثه بالصور والإشارات، وتتدفق منه الموهبة وحب الحياة.
وأضاف الخميسى أن الجميع يعرف الآن – أكثر من أى وقت مضى – قيمة ذلك الكاتب العملاق، وفداحة الخسارة التى أصابتنا بموته المبكر. ويذكرنا رحيل يوسف إدريس بما قاله أنطون تشيخوف ذات مرة من أن الموت يوارى نصف الفنان فقط، أما نصفه الآخر فيظل حيا فى إبداعه الذى تركه لنا.
وقال الناقد الدكتور يسرى عبدالله أستاذ الأدب الحديث بجامعة حلوان إن استعادة يوسف إدريس استعادة لقيم الثقافة الوطنية المصرية، فى أشد تجلياتها خلقا وابتكارا، وبما يعنى أن ثمة سؤالا جوهريا يمكن أن ننطلق منهن ونحن نحتفى بالذكرى الثانية والعشرين لرحيله: لماذا يبقى يوسف إدريس فى الذاكرة الأدبية؟
وربما بدت عشرون عاما أو أكثر فرصة إيجابية للإجابة عن هذا التساؤل المهم، بحيث يعاد الاعتبار إلى يوسف إدريس بوصفه مؤسسا ذا تصور مختلف للقصة القصيرة، ومطورا لها فى آن، ومتجاوزا بها ما صنعه الرواد: الإخوان عيسى وشحاتة عبيد، ومحمود طاهر لاشين، ومحمود تيمور، ومحمد تيمور، وصولا إلى الرائد المبدع يحيى حقى. بدا يوسف إدريس ابن أوانه – بامتياز-، معبرا عن جوهر لحظته السياسية والثقافية، قابضا وببراعة على زمام الحكاية، ومدافعا من خلالها عن ناسه من البسطاء والمنسحقين والمهمشين، فبدت كتابته- وباختصار – صوتا للمقموعين: "فلاحون، وأجراء، وعمال تراحيل، وموظفون برجوازيون/ وطلبة، ومناضلون، ونساء حائرات، ونساء مقموعات،...إلخ"، ومن ثم أصبحت كتابة يوسف إدريس تاريخا لمن لم يقف عندهم التاريخ، من هنا كنا أمام أبطال هامشيين طيلة الوقت، متواضعى الحال والقدرات، أبناء لواقع بالغ القسوة ولتلك الضرورة الحياتية المعاشة، يبنى عوالمهم ذلك الخيال الجديد لكاتب فذ، مختلف، ومغاير، قرر منذ مجموعته القصصية الأولى "أرخص ليالي" أن يكتب عن شخوص منسيين، يمثلون فى جوهر الحكاية القصصية متنها، مثلما يمثلون تماما لكل الكتاب الطليعيين والتقدميين فى العالم ملحا للأرض وللحياة معا، من هنا سنجد حكايات عن عبدالكريم الفلاح المعدم الأجير، ورمضان أبو سيد، والحفنى أفندى مدرس الكيمياء التعيس، وغيرهم كثيرون، بشر يعيشون على الحافة، مأزومون ومرتبكون، فى آن، لكنهم أبناء اللحظة الفائتة، والأمل المراوغ، بشر من أولئك الذين يعبئون لياليهم بوهج الحكايات الساخرة، ونفسها الذى لا ينقطع، أو يلين.
وانطلاقا من الخصوصية الثقافية المصرية، وتعبيرا عن الوجدان الجمعى للأمة المصرية، كتب يوسف إدريس نصه القصصى، فيختار لحظته السردية، ويحدد أسلوبه، ويختار لغته وطرائقه الفنية، فينحاز للعامية فى حواراته إمعانا فى إضفاء مزيد من الواقعية على الحدث السردى، ودفعا بالنص إلى أفق الحياة اليومية بناسها المنسيينن وعراكها المستمر، وهوامشها المختلفة، وطزاجتها الدائمة. من المكون المحلى المصرى إذن يبدأ يوسف إدريس وينتهى كاتبا مجيدا مقتصدا فى سرده، موجزا ومكثفا فى آن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة