
فى دراسة مستفيضة كتبها الدكتور جابر عصفور عن محفوظ، بعنوان "نجيب محفوظ.. الرمز والقيمة" أوضح أن صفتا التسامح والاعتدال كانتا صفتين متكررتين فى إبداعات محفوظ، خصوصاً من المنظور الدينى، الذى لا يعرف المجادلة سوى بالتى هى أحسن، وظلت الصفتان تتجاوبان فى وجدان نجيب محفوظ ووعيه الإبداعى، وذلك منذ أن تفتحت عيناه وسمع شعار ثورة 1919 "الدين لله والوطن للجميع"، فأصبح الشعار واحداً من المبادئ التى لم يتخل عنها قط، وظل منطوياً على شعاراتها ابتداء من وحدة الهلال والصليب، وانتهاء بحق المواطنة الذى لا يعرف التمييز على أساس الدين أو الجنس أو الوضع الاجتماعى.

فكان نجيب محفوظ أول الروائيين المصرين الذين جعلوا الشخصية المسيحية موجودة فى رواياتهم بوصفها شخصية لها حضورها الموازى للشخصية الإسلامية كشخصية رياض قلدس صديق كمال فى السكرية.

وكانت هاتان الصفتان هما الوجه الآخر لرفض التطرف والتعصب والإرهاب المترتب عليهما فى مجال العقيدة الإسلامية، التى استخدمها دعاه الإرهاب لتبرير موقفهم، أو الدفاع عنها بما لا أصل له فى الدين الإسلامى.

ولا شك أن شخصية حسين التى رسمها محفوظ فى رواية "بداية ونهاية" يمثل الشاب الذى قرأ وتأكد أنه لا تناقض بين الاشتراكية والإسلام، وأن العدل الاجتماعى هو الجامع بين دعوات الاشتراكية وما هو ثابت فى الإسلام.

وإذا تأملنا كتابات محفوظ، وخاصة رواية "ثرثرة فوق النيل"، نكتشف أنه تنبأ بثورة على النظام السياسى، بل وحذرنا من اغتصابها، فهو لخص المستقبل فى جملته "أن الثورات يخطط لها العقلاء، وينفذها الشجعان، ويجنى ثمارها الجبناء".

ولا يكتمل الحديث عن صفتى التسامح والاعتدال اللتين تتخللان أعمال محفوظ، إلا إذا نظرنا للوجه الآخر لرفض التطرف والتعصب، والإرهاب المترتب عليهما فى العقيدة الإسلامية، وتأويلاتها التى استخدمها دعاه الإرهاب لتبرير مواقفهم، أو الدفاع عنها، فنجده أيضاً نبهنا لذلك، وحذرنا من التطرف والتعصب، وإذا نظرنا إلى الشخصية الإخوانية مأمون رضوان، و نقيضه علىّ، والإخوانى عبد المنعم شوكت، ونقيضه أحمد فى "الثلاثية"، وجدنا بدايات رفض الآخر، والضيق بمبدأ الحوار، والجنوح إلى تكفير النقيض الفكرى، ولو حتى على سبيل الإلماح الذى يحمل العلامة الأولى لرفض الآخر.

وإذا نظرنا لرواية "أولاد حارتنا" نجد أن الصراع الذى كانت تصوغه الرواية هذه المرة، رمزاً وتمثيلا، هو الصراع بين المقموعين والقامعين، سواء فى المدى الاعتقادى المرتبط بالمغزى الاجتماعى، أو المعنى السياسى المرتبط بالتسلط.

وهنا يمكننا القول بأن محفوظ كان يرصد الواقع بحرفية، ويقرأ المستقبل ويتنبأ به بدقة شديدة، فهو رسم برواياته مستقبلاً رآه بعينه، وعشناه بتفاصيله، وربما لو كانت السلطات الحاكمة قرأت مؤلفاته، لتعلمت، وتجنب العديد من الصراعات.






