محمد جاد الله

مستقبل أزمة الهوية الوطنية

السبت، 24 أغسطس 2013 10:45 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
من أوضح تداعيات تقصير النخب الثقافية فى القيام بدورها التنويرى فى المجتمع، بعد ثورة ٢٥ يناير، ما نعايشه الآن فى مصر من تداعيات الخلط المفزع فى مفاهيم الهوية الوطنية، حيث نجح الصراع السياسى فى قسم المجتمع المصرى التعددى حول ما لا ينبغى أبداً لمجتمع مأزوم أن يختلف حوله، ألا وهى ثوابت الهوية الوطنية، التى لا تقبل القسمة على "إسلامى" و"مصرى"، والشاهد فى ذلك الأمر شيوع اتهامات التخوين والعمالة التى أصبحت أسلحة موجهة إلى صدور المختلفين فى الأيديولوچيات السياسية أو الدينية بتعميم لا موضوعية فيه ولا حقيقة، حتى انتقل التكفير والتحريض من مرحلة التصايح إلى مرحلة سفك الدماء بين أبناء الوطن الواحد.

وأكدت الأحداث الجسام التى نعيشها الآن، أن استقرار مستقبل مصر وبناء حالة سلم أهلية مستدامة بين أهلها، لم تكن يوماً نصب أعين من سمحوا لأنفسهم من بعض قيادات العمل السياسى فى أحزاب اليمين الدينى، أن يسبوا ويسفهوا عماد الهوية الوطنية، وهى الحضارة المصرية وشواهدها التى علمت الإنسانية كلها لآلاف السنين قيم الأخلاق والعدل والحقيقة، انتصاراً لهويتهم المجتزئة من سياقها الوطنى.

ضربوا بالعلم عرض الحائط، وهم يسيرون على طريق التجهيل بين أتباعهم بحقائق التاريخ، مستمرئين بصلف خلط بحثى عبثى بين المصادر الدينية والمصادر التاريخية، خدمة لآرائهم وتوجهاتهم على حساب الوعى المصرى بأساس هويته الوطنية الممتدة.

كانت خطواتهم تصنع بجهالة خدمة تاريخية بالوكالة للصهيونية المتطرفة عالمياً، باختزال كل ما يتعلق بالحضارة المصرية فى قصص المظلومية التاريخية لبنى إسرائيل أمام سطوة ملك مصرى واحد من بين مئات الملوك عبر آلاف السنين، وبالإمعان فى ترويج تلك الرؤية الزائفة على عموم الشخصية المصرية عبر التاريخ محلياً، وهم يشاركون تاريخياً بأقوالهم تلك فى مسؤولية تزييف الوعى بالبديهيات الحضارية.

وكأن حضارة المصريين لم تعرف الله إلا على يد بنى إسرائيل، وكأن الله تعالى لم يختص المصريين ظلماً (حاشاه) بأنبياء قبل إبراهيم الخليل عليه السلام ونسله.

وكأن كل ما سبق البعثة المحمدية فى مصر عبر آلاف السنين لم يكن غير جاهلية وظلمات فى تاريخ معرفة المصريين بالله تعالى وشرائعه الأخلاقية.

وكان من نتاج هذا الفكر الإقصائى النكد، غير المسئول، أن رُوِّعَ المصريون والمصريات فى مصريتهم، بل ومس الترويع كثير من ثوابتهم الدينية الوسطية.

وفى سبيل الدفاع غير المنصف عن باطل حضاري، استفزت تلك المحاولات الجاهدة قطاعات شعبية واسعة، خاصة عندما أصبحت بعض الوجوه الضاربة فى التخلف الحضارى منهم، ممن ينادون بهدم الآثار مطية و"نمرة" مفضلة فى السيرك الإعلامى، الذى نصب فى الفضائيات آنذاك.

ولأن التطرف لا يستجلب إلا التطرف، فقد استيقظت فى الوقت ذاته كردة فعل، آراء قومية متطرفة وغير موضوعية، مطالبة بإقصاء كل ما هو "إسلامى"، لحساب كل ما هو "مصري"، كون الإسلام (على حد رؤيتهم) عمره أربعة عشر قرناً ودخيل على مصر، بينما حضارة المصريين تسبقه بآلاف السنين.

وهؤلاء أيضاً هم من أسقطوا جام غضبهم فى نقدهم لتلك التوجهات المذهبية المتطرفة، والتى يتم استخدامها سياسياً فى بعض الفترات على عموم الفكر الإسلامى السمح، فكانت الضحية بين المتطرفين من الجهتين هى الملامح الراسخة للهوية المصرية الوطنية الجامعة.

المعركة القادمة للنخب الثقافية فى مرحلة "تأسيس المستقبل الوطنى"، تكمن فى التصدى المرحلى لجبهتى الإقصاء المتبادل فيما يخص الهوية الوطنية بمكوناتها المتراكمة عبر آلاف السنين، لأن تلك الخطوة هى ضمانة الحل التدريجى للأزمات الناشئة عن صراعات الهوية المتجذرة بين أبناء الوطن الواحد.

وإعادة ترسيم أطر الهوية الوطنية المصرية، كأحد دعائم بناء السلم المجتمعى فى الداخل، وكمحفز لقوتها الثقافية الناعمة فى الخارج، لا يمكن أن ينجح بتسويق نعرات الاستعلاء العنصرى على دول نختلف معها سياسياً، أو بمبالغات مفرطة فى التفوق الجينى المصرى فى أوقات الأزمات.

ولا تنجح صناعة وعى قياسى سليم للهوية الوطنية، بالاستماع للأغانى الوطنية الحماسية وحفظها عن ظهر قلب، أو بالإبقاء على مقررات التاريخ المصري، ومناهج العلوم الإنسانية صماء وجوفاء، مليئة بالحشو والتسطيح.

الأمر لم يعد ترفاً فكرياً، بعد ان استحل بعض من يحملون جنسية هذا الوطن ويعيشون فى خيره، فى لحظات يأس، دماء إخوتهم المصريين بعد تكفيرهم، ولا يحتمل المستقبل بدائل عن العمل التنويرى الدؤوب على أرض الواقع، بالعمل على توضيح الخطوط الحمراء فى قضية الهوية الوطنية المصرية الجامعة، والتأكيد على البذل فى سبيل عدم تخطيها مرة أخرى، وبحث سبل التفعيل لخطط التنوير والتدريب المحكمة فى ذلك الأمر بدعم من مؤسسات الدولة المصرية، ومنظمات المجتمع المدنى.

الترف والتراخى الحقيقى يكمن فى عدم البدء بوضع الخطط والتنفيذ فى وقت الأزمات الحادة، متعللين بالحالة المزاجية المحبطة، وبأن الحالة السياسية والأمنية المشتعلة لا تسمح الآن حتى ولو بالعمل الفكرى فى التخطيط لنهضة المجتمع المدنى؛ فألف باء حلحلة الصراعات الفكرية هو طرح الخطط وبدء العمل فى مرحلة الصراع ذاتها، تمهيداً لنضج التجربة التطبيقية فى مرحلة ما بعد الصراع، من أجل إنقاذ المستقبل.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة