طريق طويل متعرج، تصطف على جانبيه فيلات فاخرة، وسط بيوت، أو بالأحرى «جحور» ريفية متهالكة، تنتثر فى أراض زراعية ضمن مشهد يعبر عن تناقض عمرانى واجتماعى صارخ.
هذا هو الطريق الذى عليك أن تسلكه إذا أردت الذهاب إلى «كرداسة»، التى تبعد مسافة نحو أربعين دقيقة، من محافظة الجيزة، وعلى بعد نحو 12 كيلومترًا، تستقبلك لافتة متهالكة عليها عبارة: «مركز كرداسة يرحب بك».
مدخل المكان يبدو مألوفا ومماثلا لمعظم القرى المصرية، لكن الأحداث الدامية تسببت فى أن تخيم الأحزان على كل شىء، ويعربد الحذر فى العيون الطيبة المسالمة.
أثناء المشى، ترى تجمعات متفرقة لمواطنين يجلسون، ويتحدثون فى حلقات نقاشية عن الحال المائل والنصيب الأعوج، فيما النظرات تتابعك وفيها السؤال: من أنت أيها الغريب، أتحمل خيرًا أم تراك أتيت بالشر؟
ويقول خالد إبراهيم، أحد شباب المركز: «كل أبناء القرية معروفون لبعضهم البعض، وهم لا يكرهون الغرباء، لكن بعد ما حدث، من الطبيعى أن يتوجسوا خيفة ممن لا يعرفون».
ويحذر من الكشف عن الهوية الصحفية، لأن الإخوان محتقنون جدا، وقد وقعت محاولة اعتداء على أحد الصحفيين هناك، كان أتى بعد المذبحة.
وفقد مركز «كرداسة» عددًا من أبنائه، ممن سقطوا ضحايا، خلال فض اعتصام أنصار المعزول، برابعة العدوية، الأمر الذى يدفع الأهالى إلى مقاطعة الصحافة، عملا بالمثل الشعبى: «ابعد عن الشر وغنى له»، وكذلك لأن هناك تسريبات بأسماء المتورطين فى مذبحة قسم «كرداسة»، ومعظمهم من أبناء المركز المعروفين للأهالى، وقد اختفوا بعد تفاقم الأمور.
ويشتهر المركز بصناعة العباءات اليدوية والنسيج، ما يجعله أحد أهم المزارات السياحية، لكنه تحول إلى مكان منبوذ، بعد المذبحة، حتى إن قاطنيه يخافون من التجول خارج نطاقه.
ويضم مركز «كرداسة» 7 قرى هى: «ناهيا والمعتمدية وكفر حكيم وبنى مجدول وأبورواش وكفر برك الخيم وكومبرة».
ولا تتعدد الاتجاهات السياسية فى «كرداسة» فكل القرى التابعة له لا تعرف سوى التيار الدينى بقطبيه الأشهر، الإخوان والسلفيين، وإلى جوارهما توجد نسبة ممن يعتنقون الأفكار الإرهابية، ممن ينتمون إلى تيار السلفية الجهادية.
ويتخوف الأهالى من أنهم سيدفعون ثمن جريمة لم يرتكبوها، أو كما تقول إحدى النساء، ممن يحترفن تطريز العباءات: «الغلابة وحدهم يدفعون الثمن.. بيروحوا فى الرجلين.. نحن نتعرض للعقاب بلا ذنب».
كان الحديث فى السياسة أمرًا قلما يهتم به سكان «كرداسة»، لكنهم الآن يخوضون نقاشات سياسية طويلة، هكذا يقول عبدالعزيز غالى، ويضيف: «لكن هذا الحديث ليس مشاعًا للجميع، فالناس صاروا أكثر حذرًا إزاء الغرباء».
ويقول: «لا تسألنى عن شأن سياسى فكل الأطراف مخطئة الآن.. الإخوان لهم كتلة معتبرة هنا، وكانوا يتصارعون مع الحزب الوطنى، على مقاعد البرلمان، والغلبان لا يحس به أحد».
ويقول الناشط السياسى راضى شامخ: «إن المركز يعد من أكبر معاقل جماعة الإخوان المسلمين على مستوى الجمهورية».. الجماعة تسيطر على جزء كبير من المركز الرئيسى وقريتى ناهيا وبنى مجدول، مشيرا إلى أن الانتخابات البرلمانية كانت تشهد منافسات حادة بين الإخوان والحزب الوطنى لكن الأخير كان ينهيها لصالحه «بوسائل ما».
ويضيف: «تتعدد العائلات الكبيرة التى يرتبط بعضها البعض، بصلات قرابة ومنها عائلات المكاوى والشاهد والجابرى والشيخ والشامى، وتبلغ الكتلة التصويتية من أبناء هذه العائلات نحو 70 ألف صوت، ما يدفع كل مرشح للبرلمان إلى السعى لكسب ود هذه العائلات، دونما اهتمام بالفقراء».
ويقول: شهرة التيار المسمى بالجهادى، لا تعود إلى أن عبود وطارق الزمر ابنى قرية ناهيا التابعة لكرداسة، ولا إلى أن القياديين بتنظيم «الجهاد» والمدانين بجريمة اغتيال الرئيس السادات فحسب، ولكن أيضاً بسبب وجود ظهير صحراوى يمتد حتى قرية بنى مجدول وقرية أبورواش ذات الطبيعة الجبلية والصحراوية، وهو ما يشجع الجهاديين على التجمع بهما.
وأصدر الرئيس المعزول، عفوا عن القيادى بجماعة الجهاد، محمد نصر الغزلانى، ذلك قبل أن يبعث به إلى سيناء، لمحاورة الجهاديين وإقناعهم بتحرير المخطوفين فى العملية الإرهابية التى سبقت عزل مرسى بنحو شهر.
وينتشر السلاح النارى بأنواعه المختلفة فى «كرداسة» وهذا طبيعى فى مجتمع أساسه النظام العائلى، ويهيمن عليه المتأسلمون، وتغيب الدولة، وتتسم جغرافيته بالطبيعة الجبلية والصحراوية.
ويقول أحد شباب القرية، رفض ذكر اسمه: إن اقتناء السلاح أمر متاح لمن يقدر على تسديد الثمن، ومعظم السلاح المتداول بالقرية، سلاح «ميرى» مما تمت سرقته من أقسام الشرطة، فى غضون ثورة يناير، هذا فضلا عن السلاح المهرب من ليبيا، بعد سقوط القذافى.
وتمثل قرية أبورواش القرية التى تنام فى حضن الجبل، على أطراف الصحراء، أهم قرى السلاح فى مصر، ويتاجر الخارجون عن القانون فيها، بالآثار التى يستخرجونها من باطن الرمال، ويتردد أن عددًا من رجال أعمال الحزب الوطنى المنحل والإخوان، يتنافسون على هذه التجارة الممنوعة حتى الآن.
ويؤكد سعد زكى، أن تدهور الوضع السياسى فى المنطقة وعدم استقرار البلاد وقلة الوفود السياحية، بسبب الانفلات الأمنى، كلها عوامل أسفرت عن نفور شباب العاملين فى السياحة إلى الاشتغال بأعمال البناء والمعمار والالتحاق بمصانع الطوب، وأيضا العمل فى محلات الجزارة أو الانتقال للعمل فى الجبل.
ويقول الرجل الذى يقترب عمره من السبعين: هناك شباب دفعتهم الظروف الاقتصادية الصعبة إلى حمل السلاح والالتحاق بالجهاديين والعيش فى الجبل، مبديًا حسرته من أن «يخسر الوطن شباباً يمكنهم أن يساهموا فى بناء مستقبله، بالانضمام لهذه التنظيمات الإرهابية».
وفيما يتعلق بالاتهامات التى وجهت إلى «كرداسة» بالتورط فى اقتراف الجريمة المتعارف عليها إعلاميا، باسم «موقعة الجمل» فى غضون ثورة يناير، يقول: «أصبحت مجرد ذكريات بعد الإفراج عن تامر طايع عضو مجلس الشعب الأسبق، وتبرئته من تهمة جمع بلطجية لاقتراف الجريمة».
ويتخوف أهالى المركز من تكرار سيناريو مذبحة القسم، بسبب تواجد العناصر الجهادية والإخوانية، وفرار عدد منهم إلى الجبال المتاخمة، محذرين من أن استمرار الغياب الأمنى، سيسفر عن كوارث محققة. ويتوقعون أن يخوض الأمن معركة شرسة ضد الجهاديين بالمركز، وهو الأمر الذى يتأهب له الجهاديون، بإقامة سواتر ترابية فى عدد من مواقع المركز والقرى التابعة له، وذلك فى مشهد يجعل المركز يحبس أنفاسه، ويتخوف من حرب شوارع دامية.
