فتحت جريمة قتل الجنود المصريين- التى راح ضحيتها أمس 25 مجندا بالأمن المركزى- فى هجوم مسلح قرب مدينة الشيخ زويد شمال سيناء، الباب واسعا أمام تصاعد المخاوف من عودة الإرهاب المنظم، الذى يستند إلى مرجعية دينية متشددة، خاصة مع بروز أسماء التنظيمات "الجهادية" بشكل صريح فى مصر بعد غياب استمر أكثر من عقدين، على خلفية المراجعات التى قامت بها الجماعة الإسلامية فى تسعينيات القرن الماضى، فى ضوء انهيار مشروع حكم الإخوان لمصر ما أنتجه ذلك من أعمال عنف.
كانت تلك المراجعات قد جاءت فى سياق التغييرات الكبرى التى وقعت على المستويين الإقليمى والمحلى، والتى شكلت ضغطاً كبيراً على نظام الرئيس الأسبق حسنى مبارك دفعه لفتح ملف عشرات الآلاف من المعتقلين الإسلاميين الذين اكتظت بهم المعتقلات على مدار أكثر من عشرين عاماً، وفق شروط صفقة لم يكتف النظام خلالها بالمراجعات الفكرية التى قدمتها الجماعة، بل اشترط أيضاً عدم انخراط أعضاء الجماعة المفرج عنهم فى أى تنظيمات أو تشكيل أى أحزاب سياسية، والسماح لهم فقط بالعمل الدعوى.
وعلى الرغم من عدم الإعلان عن هوية منفذى الهجوم الإجرامى أمس الاثنين، إلا أن طريقة التنفيذ وموعده الذى تم التخطيط له بعناية، يجعل من السهولة بمكان معرفة بصمات المنفذين لدى الأجهزة الأمنية، خاصة بعد هجمات سابقة على مراكز للشرطة والجيش فى سيناء، حيث يعتبر هذا الحادث هو الأكبر والأكثر دموية الذى يتعرض له الأمن المصرى منذ سنوات.
وتشير التقارير إلى أنه منذ الثالث من يوليو الماضى. فقدت القوات المسلحة والشرطة المصرية 49 من عناصرها هم 28 شرطيا و21 جنديا، تشير أصابع الاتهام فى كل حوادثها إلى التنظيمات الجهادية التى أعلنت حربا صريحة ضد القوات المصرية "شرطة وجيش".
وجاء بيانان من السلفية الجهادية فى سيناء صدرا يوم الأحد قبل الماضى، فيما يشبه إعلان حرب على الجيش المصرى. بعد أن وجها تحذيرا مباشرا من استمرار استهداف العناصر الجهادية فى سيناء، حيث حمل أحدهما توقيع "السلفية الجهادية فى سيناء" ونقلته المواقع الإلكترونية التابعة لتنظيم الجهاد، فيما حمل الثانى توقيع مجلس شورى المجاهدين التابع للجماعة الإسلامية، وهو ما يكرس فرضية الارتباط الوثيق بين تنظيم الإخوان وجماعات العنف الدينى فى مصر.
ومع القبض على عدد كبير من قيادات الصف الأول فى تنظيم الإخوان وعلى رأسهم المرشد العام محمد بديع وما أعقبه من تعيين مرشد جديد ينتمى إلى المدرسة القطبية المتشددة فى الجماعة وهو محمود عزت، بالإضافة إلى اعتقال قيادات التنظيمات الأكثر تشددا وعلى رأسهم محمد الظواهرى زعيم السلفية الجهادية فى مصر وشقيق زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهرى والقيادى فى الجماعة الإسلامية مصطفى حمزة، تبدو سيناريوهات التصعيد الدموى أقرب إلى التنفيذ على الأرض، وذلك ضمن عمليات انتقامية من قوى الجيش والشرطة، وهو ما يتطلب قدرا أكبر من الحيطة والحذر ونمطا أرفع من الخطط التى يمكنها إحباط تلك السيناريوهات.
وعلى الرغم من اختلاف ملابسات التمدد السرطانى للجماعات الدينية المتشددة منذ نهاية السبعينيات مع ما يجرى حاليا، إلا أن حالة الانهيار الخاطف لمشروع تيارات الإسلام السياسى فى مصر، وشيوع أجواء من الإحباط لدى المناصرين لهذا المشروع بعد الانتكاسة التى تعرض لها بنهاية حكم الإخوان لمصر، يمكن أن تكون عاملا موضوعيا لعودة العنف المنظم على غرار ما شهدته مصر منذ بداية ثمانينيات القرن الماضى والتى رسمت ملامحه بجلاء عملية اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات.
ومن خلال تأصيل مراحل نشوء وارتقاء جماعات العنف الدينى فى مصر، يمكننا رسم سيناريو ربما يكون أقرب إلى الدقة لما يمكن أن تشهده الساحة المصرية خلال الفترة القادمة من أعمال عنف منظمة تستند إلى مرجعية دينية متشددة، على الرغم من شيوع أجواء التفاؤل بقرب انزواء تلك الجماعات المتشددة، مع استمرار الضربات الأمنية الموجعة بالإضافة إلى تجفيف منابع التمويل لها، خاصة مع اعتقال قيادات الصف الأول لها.
فقد شهدت سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى نمو سريعاً وواسعاً للجماعات الإسلامية الجهادية فى مصر، فى شكل ثلاثة تنظيمات رئيسية هى الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد وجماعة التكفير والهجرة، حيث كانت الجماعة الإسلامية أكثرها نفوذاً وأوسعها انتشاراً، حتى قدر البعض عدد أعضائها نهاية التسعينيات بما يقرب من 40 ألف عضو، فى حين يأتى فى المرتبة الثانية تنظيم الجهاد الذى بلغ عدد أعضائه فى نفس الفترة ما يقرب من 6 آلاف عضو، وأخيراً تنظيم التكفير والهجرة الذى يعتبر الأصغر بالمقارنة مع الجماعتين السابقتين حيث بلغ عدد أعضائه ما يقرب من ألفى عضو.
وعزا باحثون ومراقبون وخبراء أمن هذا النمو السرطانى لجماعات العنف الدينى منذ نهاية السبعينات لجملة من العوامل، أهمها انزلاق جيل كامل من المصريين إلى حالة من اليأس والإحباط والغضب، مع انهيار المشروع القومى عقب هزيمة السادس من يونيو عام 1967، ناهيك عن فجاجة التحولات التى شهدتها البلاد وموجات الهجرة إلى دول الخليج، بالإضافة إلى القبضة الحديدية التى أدتى إلى قمع وتهميش المعارضة السياسية، وهو ما أنتج ظاهرة الأحزاب الكرتونية عديمة التأثير فى الشارع والتى تستخدم كعامل مكمل للديكور الديمقراطى.
ومع تصاعد معدلات الفقر والقهر فى الريف (خاصة الصعيد) وانتشار الثقافة الدينية المسطحة والمتشددة فى آن واحد، خاصة بين سكان العشوائيات النازحين من الريف تحت وطأة الفقر بحثاً عن فرصة للحياة، وتراجع اليسار المصرى الذى اختار الاندماج مع الدولة الناصرية سواء عضوياً أو فكرياً، وتفكيك جماعة الإخوان المسلمين خلال الحقبة الناصرية، أصيبت الساحة السياسية المصرية بحالة من الفراغ المميت، سرعان ما تقدمت الجماعات الإسلامية الجهادية لاحتلاله، حيث كانت الأرض ممهدة سياسياً واقتصاديا واجتماعياً.
وتبدو حالة السيولة التى مرت بها الدولة خلال الفترة التى أعقبت ثورة 25 يناير، وما نتج عن ذلك من انفلات أمنى وتدهور اقتصادى وسيادة أنماط من الانهيار المجتمعى والأخلاقى، أرضية جيدة تتوافر لجماعات العنف الدينى للعودة مجددا وخوض حرب مثل التى خاضتها ضد الدولة خلال حقبتى الثمانينيات والتسعينيات، والتى اتخذت شكل أعمال إرهابية استهدفت رجال الشرطة وبعض رموز الدولة والمثقفين العلمانيين.
وتتطلب تلك الحالة من الدولة المصرية الآن أن تبنى على أرضية الثقة التى أسسها الجيش بحماية الإرادة الشعبية يوم 30 يونيو الماضى، وما أعقب ذلك من خروج ملايين المصريين الذين لا ينتمى معظمهم إلى أحزاب أو جماعات سياسية لتفويض الجيش لمحاربة الإرهاب، باعتبار أن تلاحم الشعب مع الجيش والقوى الأمنية هو الخيار الوحيد للنجاة من موجة عنف أعمى قد تضرب مصر من جديد، خاصة مع ظهور جماعات السلفية الجهادية لتعلن عن نفسها من خلال عمليات القتل والتفجيرات التى طالت عدة مناطق خلال الفترة الأخيرة.
وفيما تبدو مختلف المناطق المصرية مرشحة كأهداف لجماعات العنف الدينى، إلا أن تركيز الأعمال الإرهابية فى منطقة سيناء يطرح العديد من التساؤلات حول اختيار تلك المنطقة الإستراتيجية كساحة للعمليات الانتقامية، ومدى توافق موازين المعركة بين الجيش وقوى الأمن المصرية والمجموعات الجهادية، باعتبارها مجموعات مسلحة تجيد حرب العصابات وعمليات الكر والفر ولا تخوض حربا منظمة كالتى تخوضها الجيوش.
وتعتبر سيناء فى نظر جماعات العنف الدينى المكان الأمثل لزرع خلايا تنظيمية مسلحة وذلك لكونها معزولة نسبيا وتتميز بخصائص طبيعية تنتج تضاريس وعرة بسبب انتشار الجبال والكهوف الملائمة للعمل المسلح وصعوبة السيطرة الأمنية عليها، بالإضافة إلى سهولة النفاذ منها إلى قطاع غزة الذى يضم الكثير من التنظيمات الجهادية التى ترعاها حركة حماس عبر الأنفاق، كما أن الطبيعة البدوية لسيناء تساعد على حماية تلك الخلايا وأعضائها، ناهيك عن الفقر الشديد وارتفاع معدلات البطالة اللذان يعتبران رصيدا ثمينا للعمل الإرهابى.
ومن خلال وجود علاقات فكرية وعقائدية بين تلك المجموعات وتنظيم القاعدة العالمى، يمكن رصد سبع مجموعات من التنظيمات السلفية الجهادية تحارب الجيش والشرطة فى سيناء يبدو جليا ارتباطها بجماعة الإخوان، خاصة بعد قيامها بتصعيد عملياتها ضد الجيش والشرطة فى سيناء بعد عزل الرئيس السابق مرسى، وهو ما ظهر فى حديث القيادى بجماعة الإخوان محمد البلتاجى لقناة الجزيرة حيث قال "إن العنف فى سيناء سوف يتوقف فورا حال عودة محمد مرسى إلى السلطة".
وهذه التنظيمات هى الرايات السود وبقايا تنظيم الجهاد والتوحيد وتنظيم السلفية الجهادية ومجلس شورى المجاهدين "أكناف بيت المقدس" ومنظمة أنصار الجهاد وتنظيم أنصار بيت المقدس وجيش الجلجلة، وهذه التنظيمات التى تشير إليها أصابع الاتهام فى عمليات اختطاف وقتل عناصر الجيش والشرطة، كما تعتبر مسئولة عن عمليات تفجير خط الغاز المصرى، وهى تتخذ من مناطق الجبال الوعرة والوديان والمغارات ملاذات آمنة لعناصرها التى تتنقل بين الأراضى المصرية وقطاع غزة.
وليس ثمة شك فى أن تلك التنظيمات التى تمارس أعمالها الإجرامية لا يمكنها أن تتمدد إلا إذا وجدت البيئة الملائمة وتوافرت لها الملاذات الآمنة، وهو ما يتطلب معالجة الكثير من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية التى توفر مناخا جيدا لاكتساب الأنصار والأعوان والجنود المنفذين، من خلال استغلال حالة الغضب والحقد على النظام التى تحرك تلك المجموعات البشرية المقهورة، كما أن وضع خطط لا تعتمد الحلول الأمنية فقط للتعامل مع الوضع فى سيناء هو السبيل الأكثر تأثيرا فى تقليص نفوذ تلك الجماعات الإرهابية المتشحة برداء الدين.
خريطة جماعات الإرهاب فى مصر..السلفية الجهادية ومجلس شورى المجاهدين يقودان الهجمات الغادرة على أفراد الجيش والشرطة فى سيناء..وهجوم رفح كشف عن حجم غير مسبوق من التصعيد تقوده العناصر التكفيرية
الثلاثاء، 20 أغسطس 2013 01:50 م
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة