ليس من المستغرب أن لا تصل حركة الإخوان المسلمين المصرية للسلطة إلا بعد ثمانين عاماً من تأسيسها، ذلك أنها نشطت وتطورت وكبرت على أنها حركة دعوية دينية، وليست حزباً سياسياً، فهى حركة تدعو للدين ولمكارم الأخلاق وتقوم بأعمال إنسانية. وقد أغرى ذلك قيادات الحركة فنصبّت نفسها طوال تاريخها على أنها ممثلة للإسلام ووكيلته ومرجعيته الوحيدة، وأعطى منتسبوها لأنفسهم الحق بالتحليل والتحريم والتدخل فى شؤون البلاد والعباد، ومع الزمن ومضى الوقت، أخذ البعض يعتبرهم أوصياء على الدين.
ويبدو أن الإخوان المسلمين ارتاحوا لما حققوه، ولذلك لم يشكلوا حزباً سياسياً إلا فى السنوات الأخيرة، لأن الحزب يتطلب إقرار أهداف وبرامج محددة، ولم يقروا استراتيجية سياسية ـ اجتماعية، لتطبيقها إذا ما تولوا السلطة وشاركوا فى الحياة العامة، اعتماداً على أنهم دعاة إسلاميون، متدينون، يقدمون مساعدات إنسانية واجتماعية، واعتبروا أن هذا يكفيهم.
إن ما جرى فى مصر خلال السنة الماضية، يؤكد أن مفهوم الدولة والسلطة مفهومان غامضان لدى الإخوان المسلمين، فلا تعرف حركتهم نوع العلاقة بين الحزب والدولة، لا علميا ولا منهجياً، أو بين الحاكم والمحكوم، وكانوا يعتقدون أن الحكم "أتاهم"، حسب تصريح الدكتور عصام العريان، هبة من الله، وما دام الله هو الذى وهب فلا لزوم لأخذ الناس بعين الاعتبار، ما دامت نيات الحركة الحسنة، هى فى خدمة الإسلام والمسلمين.
طرح الإخوان المسلمون شعار "الإسلام هو الحل"، هكذا بعمومية الشعار دون شرح أو تفصيل، مستغلين قدسية الإسلام لدى الجماهير، دون أن يقولوا ما هو الإسلام الذى يقصدونه، هل هو صحيح الإسلام الذى لا يتدخل فى السياسة؟ أم إسلام الأفغانى ومحمد عبده وعلى عبد الرازق والكواكبى وإسلام الفقهاء المتنورين؟ أم إسلام المرحوم سيد قطب الذى كفر المجتمع بكامله؟ ثم تجاهلوا قول رسول الله "أنتم أعرف بشؤون دنياكم".
ومن المعلوم أن الدين حدد الحلال والحرام والمنهى عنه، وأعطى الحرية والحق للمؤمن بأن يتصرف فى ضوء ذلك، ولم يلزم الناس بشيء آخر، فالأصل هو الإباحة. ولهذا لم يذكر رواة سيرة الرسول الكريم الذين رصدوها بأدق تفاصيلها، أنه سأل أحداً مرة إن كان صائماً أم لا، أو هل يصلى أو لا يصلى، أو إن كان يذهب للمسجد من عدمه، أو عن أى شيء له علاقة بفرائض الدين، لأن الإيمان قضية شخصية، لم يشأ الرسول (ص) أن يتدخل فيها.
خسرت حركة الإخوان المسلمين المصرية فى عام واحد ما كسبته خلال ثمانين عاماً ماضية، بسبب أخطائها الكارثية التى ارتكبتها، فأكدت بذلك أنها خارج الزمان والمكان، تعيش أوهاماً وتعتمد على أوهام، فضلاً عن أنها لا تملك تصوراً عن الدولة والسلطة والحكومة والتحالفات.
وقد كشفهم (أى الإخوان) سلوكهم الملتوى مع شركائهم بعد تولى السلطة، حيث مارسوا التقية والخداع والنيات المسبقة بالإخلال بالتعهدات، والمخاتلة، إضافة للجهل السياسى والإدارى بشؤون الدولة والمجتمع، والإقصاء والاستئثار بالسلطة. كما أثبتوا أنهم لا يعرفون الكثير عن ظروف عصرنا واحتياجات مجتمعاتنا، وكأن هذه المجتمعات ما زالت تعيش فى عهد مضى.
إن كل حزب أو تيار سياسى فى عصرنا يحاول أن يعتمد على جماهير الشعب، ويستقوى بها، ويعمل لتحقيق أهدافها، وتطوير حياتها وتحسين سبل عيشها، إلا الإخوان المسلمون الذين يعتقدون أن لا حاجة للجماهير، فالسلطة هبة من الله.
وينبنى على مثل هذا الاعتقاد أمران: أولهما أن لا أهمية للشعب وللانتخابات وللديمقراطية وللتحالفات، والثانى هو أن الدولة والحكم شأن دينى صرف، واستطراداً شأن فقهي.. مع أن الإسلام السياسى عامة لم يثبت للمؤمنين بالأدلة الشرعية، أن الدولة وشؤونها وشجونها هى أمر دينى.
لم تكن واضحة البتة فى أذهان قادة الحركة ولا فى أدبياتهم، علاقة الدولة المصرية بالإخوان المسلمين، ولذلك ألحقوا الدولة بمكتب الإرشاد، فصارت القرارات التى توجه الدولة وإداراتها تتخذ فى مقر الجماعة وفى مؤسساتها.
وهذا ما زاد "الشغف" بالسلطة لدى أعضاء الجماعة، وحرضهم على إقصاء الفئات والفصائل والأحزاب المصرية التى ساهمت فى الحملة الانتخابية التى لولاها لما نجح الرئيس مرسى ولما وصل الإخوان للحكم، وترافق هذا مع تخليهم عن جميع وعودهم و"عهودهم" القاضية بالتعاون والتشاور مع هذه الفئات، والتشارك معها فى الحكم.
وتنفيذاً لهذا "الشغف" بالحكم، وحب السلطة والاستئثار بها، واستسهال إقصاء الآخر، تم تشكيل مجلس الشورى المصرى على هواهم، وعزل النائب العام، ومدوا أيديهم للقضاء والإعلام ومؤسسات الدولة، وعملوا "بجنون" لأخونة الدولة المصرية، وبدأوا يتحدثون عن الخلافة وكأنها أمر إسلامى وهى ليست كذلك، وعن الحاكمية أيضاً، واستباحوا الدولة ومؤسساتها، من الإدارات والمؤسسات إلى المحافظين إلى الوزراء إلى غيرهم، واعتقدوا أن طرحهم الدينى يكفى لإسكات الناس وإهمال مطالبها، فى الوقت الذى مارسوا فيه سياسة خارجية غامضة هشة ومترددة وغير واضحة، خاصة تجاه إيران وسوريا، وتجاه دور مصر العربى والإفريقى التاريخى والتوجه لاسترداد هذا الدور.
أدت أخطاء الإخوان المسلمين الكارثية إلى تفاقم مشاكل الشعب المصرى، وتضخم الجنيه وارتفاع الأسعار، وفقدان المواد من السوق، وزادت مصاعب المصريين وعذاباتهم، ومع ذلك بقى الإخوان يعتقدون أنه يكفيهم أنهم يتحدثون بالإسلام ويعملون له حسب زعمهم.. وها هم الآن يبكون ملكاً مضاعاً لم يحافظوا عليه...
