صدر عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية العدد الثالث عشر من سلسلة "مراصد"، والتى تضم دراسة بعنوان "إدارة التعددية الدينية: الأقباط فى مصر نموذجًا".
أعد الدراسة كل من الدكتور سامح فوزي؛ كاتب وباحث متخصص فى المواطنة والمجتمع المدنى وأحد المشاركين فى كتابة وثيقة الأزهر، زميل جامعة ستانفورد، والدكتور سمير مرقص؛ كاتب وباحث وأحد المشاركين فى كتابة وثيقة الأزهر، عضو الأكاديمية النرويجية للآداب والتعبير.
تأتى أهمية مناقشة إدارة التنوع الدينى نظرًا لأنها من القضايا الأساسية التى تمثل محورًا لتعميق التجربة الديمقراطية، فى حالة الإدارة الرشيدة للملف، أو سببًا للتوتر، وتقويض التجربة الديمقراطية إذا لم نلتمس الإدارة الرشيدة فى المعالجة.
وتبين الدراسة أن التوترات الدينية التى تكاثرت فى العقود الأربعة الأخيرة كان لها أثرها فى تهديد وحدة النسيج الاجتماعى المصرى، وسمحت بظهور خطابات انقسامية، وتحركات طائفية، وحالات من المواجهة المباشرة على الصعيد الاجتماعى بين مسلمين ومسيحيين على خلفية سوء إدارة التنوع الدينى.
وتنطلق هذه الدراسة من منحى مختلف، وهو النظر إلى مشكلات إدارة التنوع الدينى مباشرة فى سياق السياسات العامة Public Policies، من خلال اقتفاء سيرة المشكلات، والعوامل المختلفة التى أسهمت فى تفاقمها، والحلول التى اُتُّبِعَت فى فترات سابقة للتعامل معها، وبيان أوجه الفعالية والقصور فيها، وأخيرًا طرح حلول ذات طبيعة برنامجية وإجرائية للتعامل مع المشكلات القائمة فى ضوء المستجدات التى طرأت على الملف الدينى، ومواقف الأطراف المتباينة على الساحة السياسية.
وترمى هذه الورقة إلى النظر إلى المشكلات القبطية من منظور السياسات العامة، من خلال استعراض جوهر المشكلة، والبدائل المتداولة، والحلول الحالية، وطرح رؤى مستقبلية، وذلك من خلال أربعة أقسام.
ويقدم القسم الأول استعراض تاريخى موجز للمشكلات القبطية، بما يعنى تتبعها، وتراكمها، والإخفاق فى مواجهتها، بينما ينظر القسم الثانى فى سوء إدارة التعددية الدينية فى الثلاثة عقود الأخيرة.
ويطرح القسم الثالث عدد من الحلول البرنامجية والإجرائية للتعامل مع بعض المشكلات القبطية الملحة، انطلاقًا من خلفية مرجعية تستند إلى حقوق الإنسان، والخبرة الدستورية المصرية، والحقوق والحريات الأساسية المكفولة للمواطنين، بينما يقدم القسم الرابع مقترح برنامجى للتعامل مع القضية الأبرز فى الملف الدينى فى مصر وهى "التوترات الدينية".
وتبين الدراسة فى القسم الأول أنه تردد صدى المشكلات التى يعانى منها المواطنون المصريون الأقباط خلال القرن العشرين، وتفاقمت فى السنوات الأخيرة منه، واستمرت فى العقد الأول من مفتتح القرن الحادى والعشرين، اختلفت طبيعتها من مرحلة لأخرى، كما تباينت درجة حدتها حسب طبيعة النظام السياسى السائد.
هذه المشكلات ليست جميعها قانونية- سياسية مثل بناء وترميم الكنائس، أو التمثيل السياسى للأقباط فى المجالس التشريعية والنقابية المنتخبة، أو التعيين فى المناصب العليا فى جهاز الدولة، لكنها فى جانب منها ذات طبيعة ثقافية مجتمعية، تتمثل فى إنتاج نصوص طائفية تعمِّق الفرز والتمييز فى المجتمع على أساس دينى، وتحول دون التلاقى الطبيعى بين المواطنين المصريين مسلمين ومسيحيين، وتخلق حالة من العزلة بالنسبة للأقباط، هذا إلى جانب شيوع أنماط من الصور الذهنية المتبادلة على الجانبين تحمل فى ذاتها آثار انخفاض مستويات التلاقى بين المسلمين والمسيحيين، وتغلغل الخطابات الدينية المتشددة، وتصاعد الشعور بالاحتقان لدى الأقباط وقطاع من المسلمين على حدٍّ سواء.
وتوضح الدراسة فى القسم الثانى أنه من خلال الاستعراض التاريخى الموجز السابق يمكن القول أنه لم يغب الحديث عن التوتر الدينى فى الحالة المصرية خلال القرن العشرين، كان ينمو ويخبو حسب الحالة السياسية والثقافية العامة فى المجتمع. فإذا كان هناك مد وطنى تراجع المد الطائفى، وإذا تراجع المد الوطنى حل محله المد الطائفى، يملأ الفراغ، ويعبئ القوى، ويشغل الأذهان، ويتسبب فى احتقان النفوس.
ورغم التنوع والاختلاف فى كم وكيف الأحداث الطائفية، اتسمت إدارة هذه الأحداث- فى العقد الأخير من عهد نظام مبارك- بملامح أساسية تجعل منها نموذجًا دراسيًّا على حالة الجفاف الفكرى فى التعامل مع ملف بالغ الأهمية والخطورة فى آن واحد: بسبب غياب التصدى الجذرى للمشكلات، وإضعاف السياسى والثقافى لصالح الأمنى، وتنحية القانون والركون إلى الجلسات العرفية، وتوظيف "الإعلام" فى إدارة المشهد "الديني"، وغياب الجهة المرجعية الجامعة.
وقد ترتب على الإدارة البائسة للشأن الدينى التعددى فى المجتمع المصرى عدد من التداعيات التى عمَّقت من مشكلات التعايش الإسلامى المسيحى، وأضافت مزيدًا من التعقيد على المشكلات المتوارثة بدلاً من السعى لحلها، فضلاً عن تدعيم الارتباك على كافة المستويات كلما وقع حادث من أحداث التوتر الدينى. ويعد من أبرز تلك الأسباب الافتقار إلى رسم استراتيجية واضحة للتعامل مع الشأن الدينى يتمثل ذلك فى عدم وجود جهة مرجعية تتولى الشأن الدينى بصفة عامة، وعدم وجود تراكم فى التعامل مع الملف، عدم وجود خبرات متراكمة؛ نظرًا للتسييس المفرط فى التعامل مع الملف، والانفراد الأمنى به وتنحية كل ما هو سياسى، والتوظيف السياسى المباشر للشأن الدينى، من خلال رفع جرعة "المحافظة الدينية"، والتى تتخذ أحيانًا شكل التعصب فى المجتمع لتحقيق التوازن مع إجراءات قمعية أمنية فى التعامل مع الإسلام السياسى.
ويقدم القسم الثالث تصورات مقترحة للتصدى للمشكلات القبطية، ومنها بناء وترميم الكنائس. وتبين الدراسة أنه هناك اتجاهان أساسيان للتعامل مع هذه القضية: الاتجاه الأول يرى أنه من الضرورى إصدار قانون موحد لبناء دور العبادة، يـُخضِع المساجد والكنائس لمتطلبات واحدة، أما الاتجاه الثانى: يرى أنه- تجنبًا للمشكلات التى قد تنشأ من تطبيق القانون الموحد- يمكن استحداث نظام أيًّا كان مسماه "قرار جمهوري" أو "قانون" أو "لائحة"...إلخ، ينظم عملية بناء الكنائس على نحو منفصل، ولاسيما أن هناك قرارًا صادرًا عن مجلس الوزراء فى 17 أكتوبر 2001م يضع تسعة متطلبات لبناء المساجد. ورغم أن هذه المتطلبات لم تُطَبَّق فى الواقع العملى، فإن هناك دعوة خاصة من جانب "بيت العائلة" للآخذ بهذا الاتجاه.
وتقدم الدراسة بعض المقترحات العملية التى من شأنها دمج الأقباط فى العملية السياسية، ومنها الإعداد للقاء وطنى يعنى بقضية الاندماج الوطنى على قاعدة المواطنة ويعمل على وضع الرؤى والتصورات والخطط التى تحقق الاندماج عمليًّا، وتبنى حملة للأخذ بنظام القائمة النسبية وهى التى يمكن أن تنتقل بالحياة السياسية المصرية كيفيًّا؛ حيث التوجهات والأفكار السياسية هى معيار الترشح والانتخاب، وليس الانتماء القبلى أو الطائفى أو العائلى، وغيرها من المقترحات.
وانطلاقًا من إرادة وطنية جامعة لبناء تقاليد المواطنة وقواعد الحياة المشتركة بين المصريين على اختلافهم فى إطار دولة القانون يأتى الاهتمام بضرورة دراسة الظاهرة والتفكير فى وضع استراتيجيات وسياسات للمواجهة.
وتهدف هذه الرؤية بداية إلى رصد بؤر التوتر فى مصر، ومعرفة أسباب الحدوث واحتمالات الحدوث، وتقديم الاتجاهات الاستراتيجية والسياسات العملية للمواجهة. وتتلخص الأهداف فى دراسة خريطة التوتر الدينى فى المحافظات المختلفة، ورصد مظاهر التمييز الدينى فى المجال العام والتى قد تؤدى إلى توترات ومشاحنات، ورصد التمييز فى الخطابات الإعلامية والثقافية والدينية والسياسية، والمناهج التعليمية، التى قد تسهم فى حدوث التوترات، ووضع البدائل والحلول العملية المناسبة لمواجهة التوترات التى قد تحدث وتحديد طبيعتها وتوصيفها بدقة من حيث التمييز بين الوقائع ذات الطبيعة الدينية والوقائع الاجتماعية، ووضع استراتيجية طويلة الأمد فى المجالات الثقافية والتعليمية والإعلامية والقانونية وأخرى آنية مباشرة.
يذكر أن "مراصد" هى سلسلة كراسات علمية محكمة تعنى برصد أهم الظواهر الاجتماعية الجديدة، لا سيما فى الاجتماع الدينى العربى والإسلامى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة