لا يمكن أن تكون وسط هذه الحشود الهادرة ولا تتذكر أيام يناير 2011، ولا يمكن أن تكون بعيدا وتتابعها من الشاشات إلا وتتذكر تلك الأيام، أول ما يدهشك هذه المرة هو حجم الحشود الذى فاق كل التوقعات منذ اليوم الأول، لقد وقع على استمارة تمرد 22 مليونا لكن الذين نزلوا إلى الشوارع والميادين من أول يوم فاقوا الثلاثين مليونا، صارت صورهم الملتقطة من الطائرات والأقمار الصناعية حديث الدنيا كلها، وعنوانا ليس على الدهشة فقط ولكن على الجمال، لم تدخل موسوعة جينيس فقط ولكن دخلت أكبر الموسوعات فى الدنيا، وهى قلوب الناس فى كل بقاع الأرض! هل ترون أن ذلك يمر كذكرى؟ لا، يحفر مكانه فى كل الأرواح التى تتشوق ليوم أجمل، وتعود الثورة المصرية من جديد ملهمة للبشرية كما كانت فى مرحلتها الأولى، هى أكبر وأعظم ثورة سلمية جرت فى تاريخ الدنيا، أجل، لكنها جاءت من شعب قاسى كثيرا وكان المتوقع منه ألا يبقى من أعدائه ولا يذر، يوم 30 يونيو أخذت طريقى إلى وزارة الثقافة لأتحرك من هناك مع مسيرة المثقفين، كنا حوالى ألفين من الرجال والنساء والكهول والشباب، وغادرنا شارع شجرة الدر وأصوات القباقيب فى أيدى النساء والفتيات تعلو فى الفضاء مع الهتافات، القباقيب تماشيا مع شارع شجرة الدر، ومع النهاية المتوقعة للنظام الفاشى الذى يحكمنا، مشينا فى شارع 26 يوليو فى طريقنا إلى النيل، على مهل تمشى المسيرة وأفكر هل رأى الزمالك مثل هذه الحشود من الثوار من قبل؟ النساء والفتيات أكثر ظهورا هنا فى المسيرة من الرجال، والناس تنضم إلينا فى كل وقت، وعند فندق ماريوت تتوقف المسيرة بعض الوقت وتستمر. وعند نادى الجزيرة تتوقف كثيرا ويدخل فيها الكثيرون وتتمدد المسيرة ويزيد أفرادها على العشرة آلاف حتى إذا وصلنا إلى كوبرى قصر النيل لا نجد فرصة لعبور الكوبرى، الزحام هائل فاق كثيرا جدا زحام ثورة يناير، ووجدت نفسى أقول مبتسما للمستشار المحترم، والكاتب والروائى الرائع أشرف عشماوى الذى تصاحبنا فى السير تقريبا نصف الطريق الأخير، هنا سنفترق، لا يمكن أن نعبر ميدان التحرير معا، سنتيه فى الزحام، ونلتقى فى أى مقهى، ريش أو البستان بعد العبور، المهم أن نتمكن من العبور، كانت زوجتى بدورها قد تاهت مع صديقاتها وكنت أعرف أننا سنلتقى فى المقهى كما تعودنا أيام يناير العظيمة، كيف عبرت الميدان؟ لا أعرف حتى الآن، كيف استطعت ذلك حقا وكنت مصمما عليه لأنى صحيا لن أستطيع البقاء فى الزحام العظيم؟ كنت لا أصدق أنى سأعبر بسلام، وستخذلنى صحتى وقلبى، لكنى وجدت نفسى أتحرك بطاقة جبارة انتهت ما أن وصلت إلى المقهى وجلست، لم أشعر بعطش رغم الحر ورغم الثلاث ساعات التى مضت وكان أكثرها فى عبور الميدان وعبور شارع طلعت حرب نفسه الذى لم يكن فيه موضع لقدم، إذا كنت أنا فى هذه السن أستطيع ذلك فما بالك بالشباب الذى طالما قلت عنه إنه لن يهدأ أبدا حتى تكون مصر أجمل وحتى تنجح ثورته فى إقامة العدل ونشر الحرية، طالما حذرت فى مقالاتى العواجيز الذين انفردوا بالحكم أن الشباب الذى صنع الثورة لن ييأس ولن يفرط فيها، لكنهم بأجنداتهم التافهة التى تنتمى لعصور القهر والظلام عمى لا يرون ويتصرفون باعتبار الشباب جماعة ساذجة يمكن الضحك عليها، ها هم الشباب داروا فى كل ربوع الوطن يعلنون التمرد، واستجاب لهم الوطن كله باستثناء القلة المغيبة عقليا منذ أربعين عاما وقادتهم المأجورين من الصهيونية العالمية وأمريكا والدول التى تسمى نفسها إسلامية وهى دول لا علاقة لها بالإسلام إلا مظاهر تافهة وتكره أن تكون مصر وطنا للحداثة التى جاء منها شباب الثورة، وأدهشنى فى البداية الكم الهائل من الزمامير والأبواق والصواريخ الاحتفالية التى تنطلق قبل الهتافات وبعدها برحيل الديكتاتور العجيب محمد مرسى، ثم فكرت كيف حقا لم ينزل الناس الميادين غاضبين، كيف نزلوا يحتفلون، والإجابة أنهم على يقين برحيله، بل يعتبرونه قد رحل، وما سنراه منه هو الأنفاس الأخيرة، ويمكن ومؤكد أنه فى لحظة سيحاول أن يكون نيرون ويحرق البلاد، وظهر ذلك فى دعوات رجاله فى رابعة العدوية بالجهاد، أى جهاد ضد وطن؟ ومن ثم بدأوا فى الخروج فى المحافظات بالأسلحة التى خزنوها فى عام حكمه تحت سمعه وبصره، وغاب هو محمد مرسى عن المشهد حتى خرج علينا بخطابه الثانى الملىء بالكذب والكيد للوطن، خطاب هو فى الحقيقة تهديد سافر للشعب والجيش والشرطة والقضاء والإعلام والناس، كل ما قاله عن حبه للجيش والشرطة هو فى الحقيقة كره مغلف بالكذب ودعوة للخروج عليهما وإعلان الخراب عليهما واغتيال رجالهما، وكل ما قاله عن الشرعية هراء لأن العمى مهما بلغ لا يجعله لا يرى هذه الملايين التى أذهلت العالم تطالب برحيله، هل هناك شرعية أكثر من ذلك؟ لقد أصبح فاقدا الشرعية تماما عبر عام كانت أمامه فيه كل الفرص، لكنه ابن مخلص لطائفة عنصرية هى الإخوان المسلمين لا ترى وطنا غير فكرتها عن الخلافة الضائعة التى يكذبون بها على الناس فى عالم لم يعد يعترف إلا بالديمقراطية، ولا ترى شعبا غير أعضائها من الممولين أو المضحوك عليهم، صرت أعود مع الساعات الأولى للصباح كل يوم لأنزل إلى التحرير فى اليوم التالى واثقا مثل غيرى فى رحيله مستمتعا بالأبواق والموسيقى والغناء، غير قلق مما قد يحدث تاركا أمرى إلى الله، تماما كما كنت أفعل أيام يناير 2011، وفى ليل الثلاثاء حين بدأ يخطب خطابه المجنون كنت فى شارع الدقى فإذا بالمعركة تشتعل فى بين السرايات، فى نفس الوقت تقريبا، إذن لقد أعطى كما توقعت إشارة البدء واستطعنا أنا وغيرى من العائدين بسياراتهم الدخول إلى منطقة دير الناحية الشعبية التى رأيت فيها الناس فى اطمئنان، لكن مشهدنا كان مثيرا بالسيارات فسألونا وعرفوا أن القتال محتدم فى بين السرايات وهرع الكثيرون منهم إلى هناك، ولمن يريد أن يعرف دير الناحية يقرأ كتاب المناضل كمال خليل «حكايات من زمن فات» فهو ابن للمكان والبشر، عدت إلى بيتى أتابع ما يجرى من معارك كنا فى غنى عنها لو استجاب الديكتاتور لمطالب الشعب، ووجدت الكثير من الدم المراق من الشعب والشرطة، ووجدت نفسى أكتب على تويتر، حتى الدم هو مظهر من مظاهر جمال الثورات، نعرف ذلك حين تنجح، رغم حزنى على كل من أصيب أو مات.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
علاء المصري
حمدا لله على السلامة